سياسات الإلغاء الثقافي: كل علامة تشير إلى فلسطين ممنوعة

11 نوفمبر 2023
"الحرية لفلسطين" من باريس (أوليغ نيكيشين/ Getty)
+ الخط -

لا يخفى على أحد، الموقف الأوروبي والأميركي الرسميّ الداعم لإسرائيل، إذ لم يتردد، مثلاً، الرئيس الأميركي جو بايدن بالتصريح، أكثر من مرة: "لو لم تكن إسرائيل موجودة، لأوجدناها". في حين أن  المستشار الألماني أولاف شولتز قال بوضوح: "أمن إسرائيل مصلحة وطنيّة عليا بالنسبة لبرلين"، العاصمة التي تشهد اشتباكات بين أنصار الحق الفلسطيني والشرطة، وتوظف السلطات فيها "معاداة الساميّة" كحجة لإسكات الأصوات التي تدعو إلى إيقاف إطلاق النار في غزّة.

الموقف الرسميّ تلته مواقف مشينة لمؤسسات رسميّة ثقافيّة لـ"إلغاء" كل ما هو فلسطيني، بل يمكن القول إن موقف إدارة معرض كتاب فرانكفورت التي ألغت حفل منح الكاتبة الفلسطينيّة عدنية شبلي جائزة يلخص هذه الاستراتيجيّة، إذ جاء في نص البيان أن الإلغاء كان "لجعل الأصوات اليهودية والإسرائيلية مرئية بشكل خاص في معرض فرانكفورت للكتاب". إذن، كل منابر العالم لا تكفي، والفلسطينيّ مشتبه به فقط لأنه فلسطينيّ. جامعة بوتسدام ومتحف برلين ألغيا حواراً وورشة عمل مع الفنانة الفلسطينية إميلي جاسر عن الفن المعاصر بعد الحرب الباردة، علماً أننا لا نعلم ما هو محتوى ورشة العمل، لكن يكفي الجنسية الفلسطينية، كي تُلغى ورشتها.

نحن أمام عماء أيديولوجي لا يمكن النقاش معه بالمنطق. عماء يكشف طبيعة القوى التي يخضع لها العاملون المهاجرون في الثقافة ضمن أوروبا، أولئك الذين لا ينظر لهم سوى كـ"آخر"، إما ينصاع للمساحة المسموحة له في الحوار والكلام والإنتاج، أو ببساطة، يُلغى.

لانهائيّة العلامات

حملة الإلغاء هذه امتدت لتستهدف كل ما هو فلسطينيّ، ولو كان الأمر موضع ظن أو التباس. كل علامة تشير إلى فلسطين ممنوعة، سواء كنا نتحدث عن العلم الفلسطينيّ، الذي هناك أحاديث عن تغريم من يرفعه في فرنسا وألمانيا، أو لوحة أنجزت قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول بسنوات، كما حصل في دار كريستيز التي سحبت لوحتي "مجهول" و"ملثم". الأخيرة أنجزها الفنان اللبناني أيمن بعلبكي عام 2011. وهنا نكتشف المفارقة، الهدف، إذن، ليس تجاوز ما يمكن أن يعتبر دعماً لحركة حماس مثلاً، بل كل ما يمكن أن يشير إلى فلسطين. هناك خوف من العلامات يثير القشعريرة، بعلبكي لبناني، ولوحته تخص الحرب الأهلية حسب قوله، وأنجزت قبل أكثر من عشرة أعوام. لكن لا يهم، هناك تلويح لفلسطين، ولو في مخيلة القائمين على دار العرض.

المبتذل في سياسة الإلغاء هذه يتضح حين ندرك أنه لا يمكن ملاحقة تحولات العلامة. الاعتماد على الشبهة قد يصل إلى منع الألوان نفسها (وهذا امتداد لسياسات الإلغاء الثقافي). العلم الفلسطيني تحول إلى بطيخة، بل وربما إلى مثلث أحمر بعد الفيديوهات التي بثتها "حماس". فهل يمكن منع مثلث أحمر كونه يدلّ على العمليات التي قامت بها كتائب القسّام؟ هل يمكن منع وإلغاء كل ملثم قد يشتبه بأنه يحتفي بأبو عبيدة؟ الإجابة ربما نعم، إذ أزال متحف بلفيدر في فيينا أحد الأعمال الفنيّة لأنه يحوي الإهداء التالي "إلى فراس، لاجئ فلسطيني"، لأنه، حسب القائمين على المعرض قد يعتبر "ضد إسرائيل"، وبالطبع العمل الذي نتحدث عنه، هو قصيدة على جدار تحكي عن معاناة اللاجئين.

هذه النماذج تكشف امتداد سياسات الإلغاء، ليس فقط بخصوص الشأن الفلسطيني، بل كل ما هو مختلف. هي حرب ضد العلامات، وهي عشوائيّة من دون أي طيف أو فهم للسياق، تستهدف كل ما يمكن الاشتباه بأنه فلسطيني. يشبه الأمر ما حدث حين ألغي كل ما هو روسيّ، إثر الحرب على أوكرانيا.

نحن أمام سلطة ثقافيّة تكشف تاريخ المتاحف الكولونيالي، وأسلوب عمل سوق الفنّ، ذاك الذي يحتوي "الآخر" بوصفه نموذجاً فيتيشياً يصلح للفرجة والتصفيق، من دون أن يكون ذا حق أو خطاب أو صوت. والأهم، هو تجاهل للسياق الاستعماري بأكمله، وحصر القضية الفلسطينية بوصفها "عدواً" لإسرائيل التي تستغل الذنب الأوروبيّ بعد المحرقة.

مساحة السرديّة الرسميّة

الممارسات التي تقوم بها المتاحف وصالات العرض والمؤسسات الثقافيّة تعيدنا إلى تاريخ طويل من عمليات الإلغاء والتهميش، للحفاظ على سرديّة "وطنيّة" تراعي التاريخ المحليّ، والأهم، طبيعة الاختلاف مع الآخر، ذاك الذي لو أصبح مواطناً ودافع ضرائب، يبقى "غريباً". سرديات ما بعد الاستعمار، أو حتى الاستعمار الحالي، لا مساحة لها؛ بل وصلت، في زمن اليمين المتطرف والنزعة الشعبوية ونظريات المؤامرة، إلى حد الإلغاء الكليّ، وهذا ما يعيدنا إلى مقاربة مركزية الهولوكوست، تلك المأساة التي رغم انهيار "كل السرديات الكبرى"، ما زالت شأناً لا يمكن تفكيكه أو تجاوزه. هي ذنب أوروبي مستمرّ، أسقط على القضية الفلسطينية بوصفها "حلاً" لتاريخ طويل من معاداة الساميّة في أوروبا.

ضمن السياقات السابقة، تظهر السرديّة الرسمية بوصفها محميّة من قبل الأشكال الثقافيّة، تلك التي لا يمكن حتى للمواطنين البيض المساس بها؛ إذ أُجّل حوار للاقتصادي واليساري اليوناني، يانيس فاروفاكيس، في أكاديميّة الفنون في فيينا. وغرّد فاروفاكيس أن القائمين على الفعالية "لم يمتلكوا الجرأة بأن يعترفوا بأنهم ألغوه بسبب رعبهم من آرائه المناهضة للاحتلال/الأبارتايد الإسرائيليّ". 

الإلغاء في هذه الحالة يستهدف حتى أقصى اليسار الأوروبي، الذي على عيوبه، يدعو إلى إيقاف إطلاق النار وإدانة الجيش الإسرائيلي، كحالة الفرنسي جان-لوك ميلانشون. بالتالي، نحن أمام سردية وطنيّة، تحاول نفي صوت الآخر، وإعماء الأعين عن الاستعمار، ومحاربة وإلغاء أي "علامة" قد تشير إلى "المقاومة" مهما كان شكلها، حتى المقاومة الثقافية ممنوعة، كي لا تهدد السردية الرسميّة التي قرنت حلّ معاداة السامية الأوروبية بـ"قيام دولة إسرائيل"، بوصفها تكفيراً عن الذنب الماضي.

ضد الحوار

سياسة الإلغاء هذه، تدفع بالقضية الفلسطينية نحو حضن اليمين المعادي فعلياً للساميّة، وتنزع عنها مفهوم المقاومة نحو الإرهاب. والأهم، تضع "كل" الفلسطينيين في سلّة واحدة من دون أي تنوع بينهم، وتحولّ كل من ينتصر للحق الفلسطيني إلى "يميني" يستحق الإلغاء كونه لا يتوافق مع قيم "الهويات" و"حقوق الإنسان". وهذا بالضبط الإشكالي. المؤسسات الثقافيّة التي من المفترض أن تكون مساحات للحوار، تمارس إلغاءً بناء على موقف سياسي رسميّ، يحولها إلى امتداد لخطاب السلطات الأعمى، تلك التي ترفض حتى الحوار أو التفاهم، وتركز على جعل حماس وفلسطين والفلسطينيين وكل ما يمت لهم "شراً" لا بد من التخلص من كلّ "علاماته"، سواء كنا نتحدث عن "إبادة غزة"، أو قصيدة على جدار في متحف في فيينا.

إبادة الذاكرة

يمكن القول إن "الرمز الفلسطيني" الآن خاضع لسلطتين، الأولى تحاول إفناء الأشكال المادية والتاريخية ومصادرتها لصالح الدعاية وعمليات التأريخ الاستعمارية التي تمارسها إسرائيل، والثانية سلطة تحجيم وتأطير للحفاظ عليه كرمز فيتيشي أو تراثي خال من القيمة السياسية الآنية. تلك السلطة، التي ما إن يستعيد هذ الرمز (علم، لوحة، زي تقليدي، قصيدة) حضوره الآني، حتى يتم إلغاؤه وإخفاؤه، بالتالي يتحول العمل الفنيّ إلى أداة نقديّة، قادرة على كشف ما يحيط به من قوى وخطابات تسمح له بالظهور بالشكل الذي هو عليه، أداة قادرة على الإشارة بدقة إلى العطب في المؤسسة الفنيّة والثقافيّة الغربيّة وادعاءات استقلالها. وهنا يمكن أن نتعامل مع "الفلسطيني" كعلامة في الدرجة صفر، هي حامل لـ"كل" أشكال الصراع في ذات الوقت، قد لا تتجاوز مثلثاً أحمر هدفه فقط الدلالة.

المساهمون