سويسرا توفر ملاذاً آمناً لكنوز أثرية من غزة بعيداً عن جحيم الحرب

15 ابريل 2024
قصفت طائرات جيش الاحتلال قصر الباشا في غزة خلال ديسمبر الماضي (فرانس برس)
+ الخط -

لم تسلم المواقع الثقافية والأثرية في غزة من الحرب الإسرائيلية على القطاع، إذ تسبّب العدوان بتدمير قصر نابليون وموقع الأنثيدون الأثري اليوناني، واحتراق المتحف الخاص الوحيد في القطاع. لكنّ بعضاً من هذه الكنوز القديمة وجد ملاذاً داخل مستودع في سويسرا. للمفارقة، يعود السبب في ذلك إلى الحصار الذي يضيّق الخناق على سكان القطاع منذ 16 عاماً.

بالاستناد إلى صور أقمار اصطناعية، أكّدت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) أنّ نحو 41 موقعاً تاريخياً دُمّر منذ بدء إسرائيل قصفها على غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. ميدانياً، يتابع عالم الآثار الفلسطيني فضل العطل لحظة بلحظة الدمار الذي يلحق بهذه المواقع. عندما تكون شبكة الإنترنت والكهرباء متوافرتين، تصله صور عبر مجموعة على تطبيق واتساب أنشأها مع نحو أربعين عالم آثار يستعين بخدماتهم لمراقبة الشبكة الواسعة من المواقع والمعالم الأثرية في المنطقة. منذ سنوات مراهقته خلال تسعينيات القرن العشرين، بدأت بعثات أثرية أوروبية الاستعانة به، قبل أن يسافر لتلقّي دروسه في سويسرا وفي متحف اللوفر في باريس.

"خراب"

قال العطل لوكالة فرانس برس، في محادثة هاتفية من غزة: "لقد استُهدفت كل الآثار في الشمال". أضاف: "استُهدفت بلخيا (مدينة أنثيدون اليونانية القديمة)، ما أحدث فجوة ضخمة"، مضيفاً "لم نكن قد بدأنا التنقيب" في جزء من المعلم الواقع على مقربة من مواقع لحركة حماس.

كذلك، أشار إلى أن "قصر الباشا الذي يعود تاريخه إلى القرن الثالث عشر دُمّر بالكامل. قُصف الموقع ثم مرّت الجرافات فوقه". تابع بعد الإشارة إلى صور حديثة للمواقع المدمّرة: "كان القصر يحتوي على مئات القطع الأثرية والنواويس المذهلة". يُروى أن نابليون كان يقيم في الموقع المشيّد من الأحجار ذات اللون الرملي عند النهاية الكارثية لحملته على مصر عام 1799، وكانت الغرفة التي يشاع أن الإمبراطور الفرنسي أقام فيها مليئة بالتحف البيزنطية.

وفي حديث إلى وكالة فرانس برس، قال جان باتيست أومبير من المدرسة الفرنسية للكتاب المقدس والآثار في القدس (إيباف): "كانت أفضل اكتشافاتنا معروضة في قصر الباشا"، لكن مصيرها بات مجهولاً، متسائلاً: "هل أخرج أحدهم القطع الأثرية من المبنى قبل تدميره؟". وازداد القلق إثر نشر مدير هيئة الآثار الإسرائيلية إيلي إسكوسيدو عبر "إنستغرام" مقطع فيديو لجنود محاطين بمزهريات وفخاريات قديمة داخل مستودع "إيباف" في مدينة غزة. وكان القسم الأكبر من الآثار التي عُثر عليها خلال أعمال التنقيب في غزة يُحفظ إما في متحف الباشا أو في المستودع.

وسارع الفلسطينيون إلى اتهام جيش الاحتلال الإسرائيلي بنهب هذه الآثار، بينما أكد عالم الآثار في "إيباف" رينيه إلتر أنه لم ير أي دليل على ذلك. وقال لوكالة فرانس برس: "تمكن زملائي من العودة إلى الموقع، لكنّ الجنود كانوا قد فتحوا الصناديق، ولا نعرف ما إذا أخذوا أي قطع". أضاف: "كلّما يتّصل فضل (العطل) بي، أخشى أن يُعلمني بوفاة أحد زملائنا أو بأنّ هذا الموقع أو ذاك قد دُمّر".

نقطة تلاقٍ وجسر

كانت غزة الميناء لقرون عدة نقطة تلاقٍ بين الحضارات وجسراً يصل أفريقيا وآسيا ومركزاً لتجارة البخور، ممّا أثار شهية المصريين والفرس واليونانيين والرومان والعثمانيين. من الشخصيات الرئيسية التي ساهمت في التنقيب عن الآثار خلال العقود القليلة الفائتة، جودت الخضري، وهو قطب بارز في قطاع البناء وجامع قطع أثرية.

وشهدت غزة، مع عقاراتها المطلة على البحر، طفرة عقارية في تسعينيات القرن الماضي بعد اتفاقية أوسلو وإنشاء السلطة الفلسطينية. في تلك الفترة عثر عمّال البناء في القطاع خلال أعمال الحفر لتشييد المباني على كمية كبيرة من القطع الأثرية. وقد جمع الخضري مجموعة منها كي يتيح لعلماء الآثار الأجانب معاينتها. لاحقاً، انتاب أمين متحف الفن والتاريخ في جنيف، مارك أندريه هالديمان، ذهول عندما دُعي لمعاينة حديقة قصر الخضري عام 2004، وقال لوكالة فرانس برس: "وجدنا أنفسنا أمام أربعة آلاف قطعة، من بينها ممرّ من الأعمدة البيزنطية". سرعان ما تبلورت فكرة تنظيم معرض كبير عن ماضي غزة في متحف الفن والتاريخ في جنيف، ثم بناء متحف في غزة حتى يتمكّن الفلسطينيون من إدارة تراثهم بأنفسهم.

وفي نهاية عام 2006، نُقلت نحو 260 قطعة من مجموعة الخضري من غزة إلى جنيف، وبات عدد منها لاحقاً جزءاً من معرض في معهد العالم العربي في باريس. لكن التغيّرات الجيوسياسية أثّرت في هذا المسار. ففي يونيو/ حزيران 2007، سيطرت حماس على غزة، وفرضت إسرائيل حصارها على القطاع. نتيجة لذلك، باتت عودة القطع الأثرية إلى غزة مسألة صعبة وبقيت عالقة في جنيف، في حين توقف الحديث عن مشروع المتحف الأثري. لكن الخضري لم يفقد الأمل، وبنى على ساحل البحر الأبيض المتوسط، شمالي مدينة غزة، موقعاً اتخذ شكل فندق ومتحفاً سمّاه "المتحف".

معرض جديد عن غزة

في حديث إلى وكالة فرانس برس، قال الخضري الذي فرّ من غزة متوجهاً إلى مصر إن "المتحف بقي تحت السيطرة الإسرائيلية لأشهر عدة". أضاف: "بمجرد مغادرة الجنود الإسرائيليين، طلبت من بعض الأشخاص زيارة الموقع لمعرفة الحالة التي أصبح عليها. وقد صُدمت، إذ فُقد عدد من القطع واحترقت القاعة".

ودُمّر القصر التابع للمتحف خلال استهداف حي الشيخ رضوان في مدينة غزة. وقال الخضري: "لقد شغّل الإسرائيليون جرافات على أراضي الحديقة... ولا أعرف ما إذا كانت القطع قد دُفنت (بسبب الجرافات) أو ما إذا كانت الأعمدة الرخامية قد تحطمت أو نُهبت. لا أجد كلاماً يعبّر عن المشاعر حيال ما حصل".

وفيما ضاع جزء من مجموعة الخضري، لا تزال القطع الموجودة في سويسرا سليمة، وأُنقذت بسبب الحصار الذي أخّر عودتها. قالت الأمينة الحالية لمتحف الفن والتاريخ في جنيف بياتريس بلاندان: "كانت هناك 106 صناديق جاهزة لنقلها". كما أشارت إلى "أن القطع في حالة جيدة. وقد رممنا بعض القطع البرونزية التي كانت متآكلة قليلاً وأعدنا تغليف كل شيء". تابعت في حديث مع وكالة فرانس برس: "كان علينا التأكد من أنّ موكب (نقل القطع) لن يُعَرقَل. كنا ننتظر الضوء الأخضر". لكن مع استحالة استعادة القطع في الوقت الحالي، أشارت بلاندان إلى أن "المناقشات جارية" لإقامة معرض جديد عن آثار غزة في سويسرا.

وقال الخضري من القاهرة لوكالة فرانس برس: "أهم مجموعة من القطع الأثرية عن تاريخ غزة موجودة في جنيف. وفي حال نُظّم معرض جديد، سيشكّل فرصة لتعريف العالم برمّته على تاريخنا". فيما قال هالديمان الذي حاول إخراج صديقه فضل العطل من غزة: "إنها سخرية القدر"، مضيفاً: "إن معرضاً جديداً عن غزة سيُظهر أن غزة مكان مشرق... وليست بقعة قاتمة".

(فرانس برس، العربي الجديد)

المساهمون