سلفاتوري شارّينو... هدّام الموسيقى واللغة

26 فبراير 2023
يتبع نهجاً يهدم ثالوث الموسيقي: اللحن والهارموني والإيقاع (ستيف راسل/Getty)
+ الخط -

خلال مناظرة حول المفكر والمحلل النفسي جاك لاكان (1901-1981)، عُقدت سنة 2010 في جامعة كاليفورنيا (UCLA) بمدينة لوس أنجليس الأميركية، شخّص الفيلسوف الفرنسي ذائع الصيت آلان باديو (83 عاماً)، تياراً داخل الفكر الغربي الحديث، تصدّره فريديريك نيتشه، انتمى إليه لاكان، وبعض أقطاب ما يُعرف بالفلاسفة القاريّين، سمّاه التيار "المضاد للفلسفة". سوّغ باديو توصيفه، بأن نيتشه تخلّى عن الحقيقة هدفاً وغاية نهائية، وهمّاً وشاغلاً دائمين للمتفلسفين، حينما قال في كتابه "أفول الأصنام": "لقد هدمنا العالم بوصفه حقيقة".

الفنون بطبيعة الحال، والموسيقى واحدة منها، ما هي إلا مرآة تعكس التبدّلات الفكرية؛ ففي أوروبا منذ القرن السادس عشر، مثّل كل من اللحن، الانسجام والإيقاع ثالوثاً يقينيّاً شابَهَ في تجلّياته الحقيقة كما هجس بها الفلاسفة منذ كانت وحتى هيغل. سرعان ما تبدّل ذلك منتصف القرن العشرين، بتبلور مدارس تلحين أعلنت الطلاق من التوافق السلمي والقالب الإيقاعي، مُتّخذةً من النشاز قيمة جمالية، أو بالأحرى، مضادة للجمال، مُحدثةً موسيقى، أقرب إلى أن تكون هي الأخرى "مضادة للموسيقى".

سواء أكانت فلسفة أم ضداً، مقطوعة سلمية أم لا، فإن التبدلات التي تطرأ على المنطلقات النظرية والمناهج العملية لم تُشكّل يوماً حائلاً دون الإبداع والابتكار في الفكر كما في الفن، وإنما على العكس، حافزاً له. المؤلف الصقلّي المعاصر سلفاتوري شارّينو (Salvatore Sciarrino) مثالٌ واضح على ذلك. فهو لم يعدم مناسبة إلا عبّر فيها عن إيمانه بأن من دون هدم ثالوث الموسيقى من لحن وانسجام والإيقاع، لن تحدث قطيعة مع الماضي، ومن دونها، لن تُكتب موسيقى للمستقبل.

ما يبعث على الغبطة، أن شارّينو لم يلقَ مصير معظم من سبقه من المؤلفين الرؤيويين (Visionaries) بأن انتُظِر موته إلى أن اعتُرِف بمكانته وقدره؛ إذ بمقتضى ترقّي النقد الفني وازدياد الوعي المؤسساتي بدور المساعي الخارقة للسائد في دفع عجلة التطور الحضاري، هو اليوم لم يزل حيّاً يرزق، في منتصف السبعين من عمره وفي عزّ نشاطه، ما يُكَفّ يُحتفى به في معظم الحواضر المُنتجة للثقافة، ومن بينها برلين.

على خشبة "راديال سيستيم" (Radial system)، وتلك في الأصل محطة لتصريف مياه المجاري تقع شرق العاصمة الألمانية وتعود إلى القرن التاسع عشر، قد حوُّلت إلى مسرح ومركز ثقافي، أحيت فرقة KNM للموسيقى المعاصرة في 11 فبراير/ شباط حفلاً، قدّمت من خلاله عملاً لشارّينو بعنوان "كُرّاس طريق" (Quaderno di strada) كُتب سنة 2003، ليؤدى من قبل مغنٍّ ذي صوت باريتون، منخفض، ترافقه مجموعة من عازفين منفردين على آلات وترية، نفخية وإيقاعية.

ثلاثة عشر نصاً باللغة الإيطالية حواها "كرّاس الطريق"، منها للشاعر النمساوي راينر ماريا ريلكه والكاتب المسرحي الألماني برتولد بريخت، هي في الأصل رسائل كتباها لأصدقاء طليان، ومنها ما كتبه الشاعر الإيطالي الحداثي جيوفاني تيستوري ناسباً إياه إلى "أحدب مجهول". يتبوأ النص الأدبي، شعراً كان أو نثراً، موقعاً مركزياً في مؤلفات شارّينو، ليس فقط لمركزية النص المُلحّن في الثقافة الإيطالية عبر إرثها الموسيقي القائم أساساً على المسرح الغنائي (الأوبرا)، بل أيضاً لخصوصية مسعاه الإبداعي.

مسعى يُمكن وصفه بالتفكيكي؛ إذ إن النهج الذي يسير عليه المؤلف في هدم ثالوث اليقين الموسيقي، اللحن والهارموني والإيقاع، يؤدي إلى هدم البُنى النغمية التقليدية، ومن ثم إعادة تشييدها بحيث تقطع صلتها بالمألوف المتعارف عليه. بموجب تلك العمليات من هدم وإعادة بناء، يعود اللحن إلى أطواره البدئية، يؤول إلى محض الصوت، اللون والنبرة؛ يستحيل إيماءةً موسيقية.

ثم لا يكتفي بتفكيك الموسيقى، بل بذات النهج الهدّام (Subversive)، ومن طريق تلحين النصوص الأدبية، يشرع في تفكيك اللغة، ليس من حيث هي معانٍ، بل من حيث هي عروض (Porsody) تخضع عُرفاً لنُظم من مواقع شدّة وخفة، ومد وقبض، قد سبق لعالم اللسانيات الأميركي نعوم تشومسكي أن أطلق عليها "نبرات مجموع الكلمات" (Word group stress)، وذلك في معرض كتاب مفتاحيّ بعنوان "أنماط الصوت في اللغة الإنكليزية"، كُتبَ بمشاركة الباحث موريس هاله، ونُشِر سنة 1968، رصد من خلاله، إلى جانب لغته الأم، 100 لغة حول العالم، بوصفها ظواهر صوتية (Phonology).

يُعيد شارّينو موضعة "نبرات مجموع الكلمات" من خلال تشكيل اللغة صوتياً، لتصير الجمل اللغوية عناصر موسيقية تتداخل، وأحياناً، تتماهى مع الأصوات التي تصدر عن الآلات المرافقة، كل ذلك في فلك خاص عديم الخواص الثقافية المُحددة لماهية كل من الموسيقى واللغة. غير أنه، بخلاف النُّهج المعاصرة الأخرى التي تُسمى راهناً "الموسيقى الجديدة" (New Age) لا يسعى لتفريغ موسيقاه من شُحناتها التعبيرية بإحالتها على قيم صوتية وأطياف لونية مُجرّدة، وإنما ابتكار وسائل جديدة، فريدة، من أجل التعبير الإنساني.

لكن التعبير عن ماذا؟ إذ ليست موسيقاه وسيلةً لعكس ظاهر المشاعر، كالحزن والفرح وغيرها، وإنما الإشارة إلى باطنها المُفعم بالعجز والحيرة حيال ذلك الدرك الخفي من الوعي. إنها بصدد إنشاء مفردات جديدة تقوم على ركام المفردات القديمة، تتجاوز بكموناتها التعبيرية كل من اللغة والموسيقى إلى ما وراءها، عسى أن تتلمّس أعماق اللاشعور، أو تنقل أصداءه؛ كأني بها مفردات "اللغة  المحيطة" التي أطلق عنها جاك لاكان اسم Lalangue، لسان اللاوعي، الذي لا ينجلي إلا "بتحطيم العلاقات اللغوية التقليدية".

علاوة على أن المسعى لديه من توالج كل من الموسيقى والنص الأدبي ضمن منشأة تأليفية جديدة، ليس جعل الموسيقى لغة واللغة موسيقى، وإنما إحداث وسيط نوعي جامع يُعين على مقاربة العالم، داخل النفس وخارجها من منظور مغاير. ذلك لا يتم إلا بتبنّي رؤية نقدية حيال الماضي، وفي الموسيقى ههنا، الإصغاء إلى التراث بأذن ناقدة. أما في الفكر، فيتم ذلك بتحدّ جريء مستمرّ ومتجدد لكل ما آل يقيناً ثابتاً، بغية تجاوز الحقيقة إلى الحقيقي.

المساهمون