رياض السنباطي: ابتهال على تقاسيم العود

07 سبتمبر 2021
كانت قصيدة "نهج البردة" ميداناً لاستعراض قدرات السنباطي الموسيقية (فيسبوك)
+ الخط -

رغم صعوبة قياس الانطباعات الموسيقية الشخصية، وافتقاد الأداة العلمية التي نزن بها الأثر الوجداني للحن معين، إلا أن النقاد والمؤرخين والقطاع الأوسع من جمهور المستمعين، يتوافقون على أن موسيقى رياض السنباطي تتسم بطابع صوفي، وتنقل من ينصت إليها إلى أجواء دينية، تذكر بتلاوة القرآن، ومحافل الإنشاد والذكر، وسرادقات الموالد، ومجالس الحضرات.
ولا يقتصر الطابع الصوفي عند الرجل على ألحانه الدينية، بل يشعر بها المستمع في ألحانه العاطفية والوطنية، وفي تقاسيمه على العود، رغم تنوعها المقامي. ولعل الجمهور المصري يتذكر جيدا أن التلفزيون ظل لسنوات طويلة يستعد لبث أذان الصلاة بتقاسيم العود الشهيرة، التي سجلها السنباطي في أواخر السبعينيات.
عند استعراض قائمة ملحني أم كلثوم الأساسيين، لا نجد لحناً دينياً واحداً لمحمد القصبجي، ولا لزكريا أحمد، المتمرس بالتلحين لكبار المنشدين. وعند استعراض القائمة المطولة، فلن نجد كذلك لحناً دينياً لمحمد عبد الوهاب أو بليغ حمدي، واقتصرت الألحان ذات الطابع الصوفي التي صاغها محمد الموجي لكوكب الشرق، على أغنيات العمل الإذاعي "رابعة العدوية"، وكان نصيب كمال الطويل لحناً واحداً، هو "غريب على باب الرجاء"، في حين يحتكر السنباطي كل الألحان الدينية المطولة، التي قدمتها أم كلثوم مسرحياً، وتكاد تكون جميعها من النصوص الفصيحة التي تتسم بقدر كبير من الجزالة، وأحياناً بقدر من الصعوبة، التي تدفع الملحن للتريّث ملياً قبل أن يتصدى لها موسيقياً.
ولا شك أن هذا الإصرار من قبل أم كلثوم على منح كل القصائد الدينية الكبرى للسنباطي، يؤكد أن سيدة الغناء كانت ترى في ألحانه الدينية ذروة موسيقية وروحية، وقدرة على التعبير يصعب أن تجد مثلها وبمستواها عند ملحن آخر.
يحرص السنباطي في ألحانه الدينية على إشاعة الأجواء الروحانية والصوفية، من خلال جمل تتكرر بمقاماتها وإيقاعاتها، لتعطي معنى الدوران، ورد البدايات إلى النهايات.

موسيقى
التحديثات الحية

ورغم أن الرجل ملحن طربي من الطراز الأول، إلا أنه في ألحانه الدينية لا يقدم جملة واحدة يستهدف بها محض الطرب، وإنما تنساب جمله الموسيقية متسمة بهالة من الجلال الملائم لطبيعة النص، ثم يأتي الطرب في تضاعيف الجمل، وفي القفلات الحراقة متضافراً مع الجلال الصوفي للحن، فيكون وقعه على الجمهور في غاية القوة، ويكون رد فعل المستمعين في غاية الانفعال والتأثر.
في قصيدة المولد النبوي لأمير الشعراء أحمد شوقي، التي اشتهرت بعد غناء أم كلثوم لها باسم "سلوا قلبي"، لا ينسى التأريخ الفني ذلك الدوي الجبار للبيت الذي جعله السنباطي ملحمة وطنية، وفق تعبير نعمات أحمد فؤاد: "وما نيل المطالب بالتمني.. ولكن تؤخذ الدنيا غلابا"، كانت الجماهير تتقافز على كراسيها، ليس فقط بسبب السياق السياسي، و"مطالب" مصر من بريطانيا، ولكن بسبب هذا اللحن الفخم المستعلي، مع أداء أم كلثوم المبهر.
عام 2011 نشرت صحيفة "ذا غارديان" البريطانية، قائمة وضعها نقاد غربيون لأهم خمسين حدثاً في تاريخ الموسيقى العالمية، وجاء في المرتبة العاشرة غناء أم كلثوم لـ"سلوا قلبي" في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي.


وجاءت قصيدة "ولد الهدى" لتكون إحدى دلائل قدرة السنباطي الفذة على التعامل مع الألفاظ الصعبة والجمل الثقيلة، إذ لم يكن يخطر ببال أحد تلحين أبيات تقول: "والعرش يزهو والحظيرة تزدهي... والمنتهى والسدرة العصماء"، وأن يكون هذا التلحين من مقام الراست ذي الطبيعة الطربية. وكما تجلت قدرة السنباطي في الأجزاء الموقعة، تجلت أيضاً في المقطع المرسل، مع قول شوقي: "يا من له عز الشفاعة وحده... وهو المنزه ما له شفعاء"، فكان للدفوف والناي دور كبير في خلق الجو الصوفي الملائم لقصيدة في المديح النبوي.
وكانت قصيدة "نهج البردة" ميداناً لاستعراض قدرات السنباطي الموسيقية، مع قدرات أم كلثوم الصوتية، وقد شارك السنباطي سيدة الغناء في اختيار الأبيات الثلاثين من بين مئة وتسعين بيتاً هي أصل القصيدة، كما قرر أن ينطلق اللحن من مقام الهزام، الذي يعطي أجواء شرقية صوفية، ووضع مقدمة تذكر بموالد الأولياء، وحلقات الذكر والإنشاد.

وسار السنباطي في اللحن ــ كعادته ــ بطريقة تصاعدية، شأن قراء القرآن الكريم، وأوصل صوت أم كلثوم إلى الذروة العليا عند أداء لفظ الجلالة في بيت: "محمد صفوة الباري ورحمته... وبغية الله من خلق ومن نسم". ومن المؤكد أن السنباطي في هذا اللحن قرر الاستفادة من الطاقة الصوتية الهائلة لأم كلثوم، فأوصل صوتها في أكثر من موضع إلى درجات تستعصي على كثير من المطربين والمطربات.


وجاءت رباعيات الخيام مفاجأة كبرى لجماهير أم كلثوم، أظهر فيها السنباطي قدرات في التفكير الموسيقي، فإذا كنا بصدد نص فلسفي، فإننا بحاجة أيضاً إلى فيلسوف موسيقي، ولم يكن لهذه المهمة إلا ذلك العملاق الذي وضع للحن مقدمة من مقام الراست ظلت تتكرر جملتها الرئيسة خلال عدة مقاطع من الرباعيات، ما أوجد حالة من الارتباط وقوة البناء، رغم التغير الكبير في معاني الرباعيات التي بدأت بالدعوة إلى اغتنام اللذات، وإطفاء لظى القلب، ونيل الحظ قبل فوت الشباب، وانتهت بالإنابة والضراعة وعودة المخلوق إلى الخالق: "إن تفصل القطرة من بحرها... ففي مداه منتهى أمرها... تقاربت يا رب ما بيننا... مسافة البعد على قدرها".
عام 1951 قدمت أم كلثوم قصيدة إلى عرفات الله، بعدما لحنها السنباطي باستهلال من مقام الهزام، وتميز الحفل الأول لهذه القصيدة الذي أقيم بدار سينما راديو بوجود مجموعة المزاهر أو الدفوف، التي منحته طابعاً خاصاً، وصور السنباطي بموسيقاه كل معاني الضراعة التي أرادها شوقي بقوله: "ويا رب هل تغني عن العبد حجة... وفي العمر ما فيه من الهفوات... وتشهد ما آذيت نفسا ولم أضر... ولم أبغ في جهري ولا خطرات".
وعام 1967 اختارت أم كلثوم أبياتاً من قصيدة "شكوى" للشاعر الباكستاني محمد إقبال، بعدما ترجمها نثراً محمد حسن الأعظمي، وحولها من النثر إلى الصيغة الشعرية الشيخ الصاوي شعلان، ووضع السنباطي موسيقاها... كان عمق اللحن مواكباً لعمق الكلمات: فالنص فلسفي، صعب المأخذ، لا تدرك معانيه بالاستماع السريع، وبعض أبياته يحتاج فهمها إلى دراية بقواعد اللغة، وفنون البلاغة، وقد نهض السنباطي بالمهمة على أكمل وجه. نجح اللحن نجاحاً مدوياً، ومنحت باكستان أرفع أوسمتها لأم كلثوم... ولا أظن أن المستمع الواعي ينسى بيت إقبال: "وجاوبت المجرة عل طيفاً.. سرى بين الكواكب في خفاء"، حيث صور السنباطي بموسيقاه معنى "السريان الخفي بين الكواكب" تصويراً مدهشاً أخّاذاً، وكذلك فعل في كل كلمات القصيدة.
وإذا كانت الأمثلة الفائتة كلها من الشعر الفصيح الذي بلغ السنباطي القمة في تلحينه، فلا بد من التوقف أمام لحنه الخالد لكلمات بيرم التونسي "القلب يعشق كل جميل"، تلك الطقطوقة "العامية" الفريدة، التي أصبحت موسيقاها علامة على موسم الحج وعيد الأضحى، حيث جمع فيها السنباطي بين الفرحة والضراعة ووصف زيارة الحرمين.
بالطبع كان لأم كلثوم النصيب الأكبر من ألحان السنباطي الدينية، لكن كانت له تجارب قليلة مع فنانين آخرين. نذكر منها اللحن البديع لكلمات حسين السيد "إلهي ما أعظمك"، التي شدت بها نجاة ليثبت به براعته في تلحين النصوص الدينية بعيداً عن صوت أم كلثوم.


أما آية السنباطي الكبرى في التفوق دون الاعتماد على السيدة، فتبدو جلية واضحة في لحنه الصوفي العظيم الذي غناه بنفسه من كلمات حسين السيد أيضاً "إله الكون". فقد صور السنباطي بنغمه وأدائه ذلك المعنى الفريد، المتمثل في التوسل إلى الله بالضعف الإنساني أمام الجمال: "إله الكون سامحني أنا حيران... جلال الخوف يقربني من الغفران". وهنا، يظهر عود السنباطي، من خلال دقة وتر واحدة عصية رائعة، جعلها السنباطي معراجاً يصعد عليه إلى الدرجات الأعلى من مقام الهزام، ليغرد: وسحر الكون يشاور لي على الحرمان.. وأنا إنسان يا ربي أنا إنسان.
جاءت الأغنية في قالب الطقطوقة، مكونة من مذهب و3 أغصان، واختار لها السنباطي مقام الهزام، الذي كان يفضله كثيرا عند تلحين الأعمال الدينية الكبرى، مثل إلى عرفات الله، نهج البردة، حديث الروح. يتعامل السنباطي مع هذا المقام بما يفجر أجواء روحانية، وطاقات صوفية محلقة.. في هذا العمل يتجول السنباطي بين عدد من المقامات، ثم يعود إلى الهزام استعدادا لتكرار المذهب، بأسلوب مدهش، ينبئ عن مدى التماسك البنيوي في ألحان الرجل.

فقد لحن السنباطي هذه الأغنية الخالدة وغناها في خمسينيات القرن الماضي، وكان أداؤه فيها شديد الإرهاف، حمل صوته بالضراعة والانكسار، وملأ اللحن بالانتقالات النغمية التي جاءت في غاية السبك والمتانة.. ومن أمثلة ذلك الكوبليه الأول الذي استهله من مقام البياتي، وعرج فيه على مقامات البستنيكار والراست قبل أن يعود إلى الهزام.. ولم يُخل غناءه من تصرفات طربية في غاية التهذيب... وقد قيل وسيقال الكثير حول هذه الأغنية، لكني أختار في الختام كلمات الناقد والمؤرخ والباحث في التراث الفني وجيه ندي، إذ يقول: "بصوته الرباني... المعطر بالموهبة الخصوصي... بنعومة الحرير... وملمس الابتهال... ورهبة المحلق في دعائه لخالقه، يغني رياض السنباطي ما لم تستطعه جميع الحناجر التي أعطاها ألحانه، تنساب العبارات والعبرات في الأعماق وعلى الأسطح، عندما يغني حاشداً مجامع حرقته ولوعته وورعه وصلاته ونسكه وتقواه... ليرفع رسالته الوجدانية في خشوع للسماء: إله الكون سامحني أنا حيران".

المساهمون