"رولينغ ستون"... قائمة من الأسئلة

29 يناير 2023
حل بوب ديلان في المرتبة الـ 15 (فينس ماغيورا / Getty)
+ الخط -

أثارت مجلة رولينغ ستون كثيراً من علامات الاستفهام حول قائمتها لـ "أعظم 200 مغن" لآخر قرنين. وبخلاف أن تحديد الأكثر "عظمة" لا يكون دائماً محل إجماع، لكن المجلة الأميركية خرجت لنا بمجموعة من الاختيارات، تدفعنا إلى مساءلة قائمتها.

ومنذ اللحظة الأولى، نتساءل عن مفهوم العظمة بالنسبة إلى المجلة، مع ظهور الإسبانية روزاليا في آخر الترتيب. بينما يمكن تسمية عشرات الأسماء التي استحقت الحضور، مقارنة بمن شملتهم قائمة المجلة، سواء من ناحية القدرات الصوتية، وتقنيات الأداء، أو حتى من ناحية الإنجاز الفني.

لقد استبقت المجلة قائمتها بذريعة تفيد أنها تشمل أعظم المغنين وليس أعظم الأصوات، مضيفة أن "الموهبة رائعة، والعبقرية متفوقة ومتجاوزة". وأكدت المجلة أن القائمة وضعت في اعتبارها الأصالة، واتساع التراث الموسيقي للمغنين.

لعلنا أمام واحدة من الفذلكات الخطابية لوسائل الإعلام، حين تتناول "العظمة" لتمرير قدر هائل من الاستخفاف. فهناك أصوات وصفتها المجلة بأنها ولدت بحناجر هائلة نطاقها لا حدود له، وأخرى تمتلك أصوات أكثر خشونة وأكثر غرابة.

وبالتالي، أحاطت عنوان العظمة وفق تقييمات فضفاضة، تمتلك من خلالها ذرائع إيجاد مكانة لفن أقل، بجانب ما هو أعمق منه. ولعلّ هناك مناورة في جعل أصوات وثقافات خارج التقييم.

وهذا يضع كل قائمة تتناول الأعظم، خصوصاً في مجال الغناء، محل شك دائم؛ إذ كيف لمجموعة من الناس تقييم ذلك، من دون تحيزات تتعلق بالذائقة والتكوين الثقافي المتآلف مع قيم موسيقية بعينها على حساب أخرى.

يمكن لأي كيان مُعترف به، ويحظى بتقدير عالمي، وضع عدد من الأسماء بكون أصحابها هي الأعظم على الإطلاق. لكن الكون شاسع، وغزير بالثقافات المختلفة، بحيث لا يمكن تبرير الأكثر عظمة بالاعتماد على مجموعة مغلقة من الأشخاص. وفي نفس الوقت، لا يمكن إخضاع الأمر لتصويت الجمهور، إذ ستتدخل الانحيازات الثقافية والشخصية.

وفقاً لقائمة المجلة الأميركية، يبدو واضحاً هيمنة الثقافة الموسيقية الشعبية الغربية عليها، برغم إفساح المجال لحضور ثقافات أخرى. وحازت الموسيقى الشرقية حيزاً محدوداً، جاءت في مقدمته المطربة المصرية أم كلثوم بالمرتبة 61، تليها المغنية الهندية الكبيرة لاتا مانغيشكار (82)، ثم أسطورة موسيقى الكوال (Qawwal) الباكستاني نصرت فاتح علي خان (91).

وعليه، نتساءل: هل تلك بالفعل المساحة التي تستحقها الموسيقى الشرقية؟ وبينما احتفى البعض بحضور أم كلثوم، وهي الاسم العربي الوحيد ضمن القائمة، رأى آخرون أنها كانت تستحق أن تنال مرتبة أكثر تقدّماً. كما انتقد كثيرون غياب اللبنانية فيروز من القائمة. على الأقل، يبرز اسم محمد عبد الوهاب صاحب التأثير الكبير في الموسيقى العربية، سواء كملحن أو كمغن.

عام 2008، وضعت المجلة نفسها قائمة بأعظم مئة مغن على مر العصور. لكنها قائمة لم تشمل ثقافات موسيقية أخرى، بل اقتصرت على الموسيقى الأميركية والإنكليزية. هذه المرة تضمنت القائمة ثقافات مختلفة، لكن الأمر يبدو بمثابة إضفاء طابع شرعي لتأكيد هيمنة ثقافية إنكليزية وأميركية، وإن كان ذلك على الأرجح عفوياً وغير مقصود.

في هذا السياق، يمكن التعاطي مع التكوين الثقافي كذريعة لا تسمح بفهم أنماط موسيقية غير مألوفة، إذ يصعب استساغتها. وهذا ما يجعل التفضيلات ترتكز على الثقافة السائدة التي لم تعد فقط غربية، إنما أنغلوأميركية. وهي مركزية لطالما خولت لنفسها تأويل العظمة من جانب واحد، بل حصرتها منصات محددة تخضع لتقييمات موظفين ومساهمين، بعيداً عن الأحكام المتعالية التي تخضع لتفضيلات متخصصين موسيقيين.

مع ذلك، تضمنت القائمة ستة مغنين أفارقة من نيجيريا وجنوب أفريقيا والسنغال. كما أن الفنانة الإسرائيلية الراحلة عفراء هزاع حضرت في المرتبة 186، مع الإشارة إلى جذورها اليمنية وما قدمته من موسيقى تعود لثقافة أسلافها اليمنيين.

وإذا تناولنا الثقافات الموسيقية المختلفة، فهناك عدد لا حصر له من الأنماط، من الفارسية والتركية والراي الجزائري، بخلاف كثير من الثقافات الموسيقية في شرق أوروبا.

عملياً، لا يمكن أن نفرض شروطاً تشمل كل الثقافات في قائمة "الأعظم"، هذا إن اعتبرنا الأمر خاضعاً لشروط دقيقة تجمع بين القدرات الصوتية والتأثير الموسيقي الواسع. وهي جوانب أيضاً لا تبدو متوفرة دائما في القائمة، لتتجاهل ثقافات كبيرة، مثل الصينية واليابانية والإندونيسية.

لكن المركزية الأنغلوأميركية، لم تغفل ثقافات آسيوية وأوروبية، بل قدمت نفسها باعتبارها الغرب. وباستثناء حضور فنانين من أميركا اللاتينية، وفنانة إسبانية، اقتصرت القائمة على اسم فرنسي يتيم، هو المغنية فرانسواز هاردي، لكنها لم تتضمن أي مغن إيطالي، بما في ذلك المغنين الكبار، مثل باتيستي ودي غريغوري ودي أندريه. بينما أكدت المجلة أن القائمة لا تشمل الغناء الأوبرالي، بل البوب الشعبي، لهذا تغيب أسماء من بلدان مثل ألمانيا، لعدم تأثير مغني البوب فيها في المشهد العالمي.

رغم كل هذا، لا يمكن فهم المعايير التي تبنتها المجلة، بخلاف ما ذكرته عن أن بعض من تضمنته قائمة الأعظم، ولدوا بحناجر هائلة، ونطاق صوتي لا حدود له. وآخرون لديهم أصوات أكثر خشونة وأكثر غرابة. لكن حتى في هذا المركز الأنغلوأميركي، أثارت القائمة غضب جمهور واسع، بسبب عدم حضور الكندية سيلين ديون على سبيل المثال.

موسيقى
التحديثات الحية

وتمتلك ديون نطاق تأثير موسيقي أفضل من كثيرات ممن تضمنتهم القائمة، خلافاً لأفضليتها من ناحية القدرات الصوتية. لكنها شملت نجوم بوب أقل شأناً، على سبيل المثل، تايلور سويفت (102) وآشر (97) وريانا (68) وليدي غاغا (58). حتى قياساً بأديل (22) التي لم يثر وجودها في ذلك المركز المتقدم أي لغط.

وإذا استثنينا موضوع الصوت، فهل للأمر، فعلاً، علاقة بالتأثير أو اتساع التراث الموسيقي؟ سنجد أن لديون تأثير أوسع من غيرها. وهو ما يمكن التساؤل حوله بوجود سيلينا كوينتانيلّا في المركز 89، باعتبارها تمثل موسيقى التيجانو (Tejano) وهي فنانة مغمورة حتى في الولايات المتحدة.

وفي حال أخذنا نطاق التأثير، سنتساءل: لماذا لم تحضر ملكة البوب مادونا، وهي المغنية التي حققت أعمالها أعلى مبيعات بين النساء على الإطلاق. لا نعرف ما إن كان الأمر خاضعاً للموضة الموسيقية، وهذا جانب لا يمكن الاعتماد عليه ضمن الأعظم؛ إذ إن ذلك يمكن تحديده في سياقات زمنية.

وفقاً للأشكال الموسيقية، مثل السول والبوب، فضل كثيرون جنيفر هدسون وبينك على من شملتهم القائمة، إضافة إلى ديون ومادونا. وبعيداً عن الانتشار، هناك مايك بايتون بصوته الممتد على ستة أوكتافات. صحيح أن القائمة شملت أكسل روز (134) ذا النطاق الصوتي المقارب لبايتون. لكن، نتساءل ثانية: ماذا عن صاحب الخشونة الفريدة توم ويتس، إذ وصف منتج أغاني الهيب هوب RZA صوته بأن لديه نعومة وايت باري، وخشونة أسد الجبل. وهذا التعبير المجازي، تأكيد لفرادة صوته، لكن ما يميزه أسلوبه بخلاف شعريته الرنانة. مع أن الشعرية كانت إحدى الجوانب المثيرة للانتقاد، وخاصةً إزاء حضور بوب ديلان في المرتبة 15. وكان عازف الغيتار المتقاعد مارتي فريدمان، انتقد وضع بوب ديلان في المرتبة 15 قبل إلفيس بريسلي الذي جاء في المرتبة 17.

لكن الأمر أبعد من ذلك: هل استحقت ويتني هيوستن أن تكون في المرتبة الثانية بين الأعظم؟ أو حتى ماريا كاري، التي جاءت في المرتبة الخامسة، رغم نطاقها الصوتي الهائل الممتد على خمسة أوكتافات. وكذلك بيونسيه في المركز التاسع. لماذا؟

صحيح أن النطاق الصوتي معيار، لكنه ليس كل شيء، فهناك القيمة اللحنية والثراء الموسيقي الذي يمكن الاعتداد به. ما يدفعنا للقول هل وجود مايكل جاكسون في المرتبة 82، حتى وإن لم يعجب كثير منا، منطقي؟ الرجل معروف أن تراثه يتجاوز كثيرين ممن جاؤوا في مراكز متقدمة عنه.

واضح أن المراكز العشرة الأولى جاءت من نصيب مغنيي السول وR&B، وانحصرت بين مغنين أميركيين. بعد ذلك في حتى المركز العشرين، حضر مغنو الروك. وبين العشرين الأوائل، كان هناك الكوبية سيلينا كروز (18)، والبريطانيين جون لينون، أحد أعضاء "ذا بيتلز" في المرتبة 12، وفريدي ميركوري 14. أما البقية، فجميعهم أميركيون.

ما الفائدة من القائمة؟ ربما لا شيء أكثر من إثارة الجدل. أو بحسب ما وصفه عازف الغيتار الأميركي المتقاعد، مارتي فريدمان، أن تقييم وسيلة إعلامية يجب أن يؤخذ مع حبة ملح بحجم آيسلندا بحيث لا شيء يمكن رؤيته. وباختصار، هو تقييم بلا معنى، فمن المضحك حتى لفنان عظيم أن يعتد بحضوره في مراتب متقدمة، ضمن قائمة عظمت كثيراً من الهراء، أو غطت كثيراً من الفاسد بقليل من الطازج.

المساهمون