"روكي": بداية المشوار السينمائي

05 فبراير 2023
نُشاهد أفلام جان ـ لوك غودار ونحن نُفكّر في هجرات سرية إلى إيطاليا (لاري إليس/Getty)
+ الخط -

 

فكرة أوّل فيلمٍ نُشاهده مبنيّة، أساساً، على بوحٍ وجداني، ربما يُعتَقَد أنّه ضربٌ من الحميميّ الذي لا يخدم السينما ونقدها. مع أنّ الفكرة قابلة لأنْ تكون مدخلاً فكرياً، حقيقياً وناجعاً، لميلاد لغةٍ شعريّة أعمق، وعلاقة بالنقد، وانفصال عنه في آنٍ واحد. لهذا، فإنّ سوسيولوجيا الحديث عن هذا البعد الحميمي، في صوغ المُتخيّل الفيلمي، يبقى أساسياً ومُهمّاً، لأنّه يكشف لحظة الكتابة عن نمط مُختلف، يُسمّى عادة "النقد السينيفيلي"، وهذا نمطٌ نقديّ يغلّب العشق على مفاهيم تتصل بالمعرفة والسياسة والاجتماع، فتغوص الكتابة في شعريّة الصورة، وترصد أحوال الشخصيات، مُستثمرةً مُختلف أشكال الرأسمال الرمزي، الذي يظلّ عالقاً في ذاكرة الناقد.

كلّ شيءٍ يبدأ من الحبّ، وينتهي فيه. أيْ إنّ المُنطلقات المعرفية تُؤسّسها، دائماً، ذائقة شعورية، تدفع الناقد إلى المُشاهدة والتفكير. السيرة عنصرٌ مُركّب وزئبقيّ، إذْ لا تُكتب من خلال الكتب والأفلام والمسرحيات، بل من القصص الذاتية، التي تشتبك مع الأمكنة والأفلام والزمن والأصدقاء والمقاهي والحانات والمكتبات، وتبني نظامها الداخلي بشكلٍ ارتجالي، وتقوم غالباً بعملية فرزٍ لا يتحكّم به الناقد، لارتباطها بأشياء داخلية، ذات علاقة بمفاهيم الذوق والجمال.

اليوم، يغلب على النقد السينمائي المغربي لغة الخشب، ومعسول الكلام، الذي يُماري المُخرج، ويجعله بوقاً له، وآلة علمية تُبرّر كوارثه وأخطاءه. أمّا الأقلام الصادقة، التي تُحاول مزج العشق بالمعرفة، والنقد بالتفكيك، فقليلة، ومعدودة على أصابع اليد الواحدة.

أكبر خطر يُواجه هذا النقد الحميمي، المنطلق من سيرة الناقد في علاقته بالذاكرة والأفلام وجماليّاتها، يتمثّل بالنقد الأكاديميّ "المُتيبّس" (كما كان يُسمّيه صديقي أمجد ناصر)، لأنّه نقدٌ "ببغاوي" مُتصلّب، وليس عميقاً كما يُظنّ. استعراض النظريات والمعارف العامّة، الموجودة في الكُتب، ليس عُمقاً، لأنّه يُضمر في طياته عُسراً في تحليل الأفلام، والكشف عن جماليّاتها، وبعدها تأتي النظريات لتُضيء الصُّوَر والمَشاهد واللقطات والأسلوب والموسيقى، لا العكس.

المعرفة لا تُدرَك دائماً بالعقل، كما حدس بذلك ابن رشد منذ قرون. إنّها بحاجة إلى الجسد ومُتخيّله ومكبوته.

السينما وسيط بصريّ، يتلاعب بالحواس، ويُؤثّر بها كلّياً، ويجعلها تتفاعل مع الصورة وأنماطها، عبر الفرح والبكاء والخوف. وبقدر ما يمنح تاريخ المعرفة إضاءة قويّة للنقّاد، لتشريح فيزيونوميّة الفيلم وعوامله، يقف عائقاً أمام تقدّم الناقد، إذْ يجعل كتاباته، أحياناً، عامّةً، لا تستجيب لتحوّلات الفيلم وصُوَره. معضلة النقد الحميمي في المغرب أنّه فارغٌ من المحتوى، ولا يوازي في تشكّلاته بين العشق والمعرفة، فأغلب هذه الكتابات ينطلق من ذكريات وصُوَرٍ ومَشاهد ولقاءات ومُشاهدات مُترسّبة في بنية اللاوعي، لا أكثر.

صُوَرٌ تحتمي بأخرى، وجُرحٌ يُضمِّد جُرحاً، وماضٍ مُتوّهج في فوانيس الذاكرة.

ذاكرتي السينمائية ذاكرة ألمٍ وخيبات، في مدينةٍ بدويّة جميلة بوجعها السرمديّ، ونازحةٍ من أقصى الريح. في طفولتي، لم أعرف أيّ علاقة بالصالات السينمائية، لكون الواحدة الموجودة، التي فتحت أبوابها في تسعينيات القرن الماضي، لم يكُن بإمكاني دفع ثمن تذكرة الدخول إليها، برفقة أصدقاء، تقاسمنا معاً كسرة خبزٍ حافية في مُستنقعات باردة، في تلك المدينة التي تبدو كأنّها نازحة من العدم. لا شيء جميل يلوح في الأفق، باستثناء صداقات حقيقية، والسهر برفقة أصدقاء وصديقات، نُشاهد أفلام سيلفستر ستالون وجان ـ لوك غودار وإيريك رومر وياش شوبرا وكاران جوهر، ونحن نُفكّر في هجرات سرية إلى إيطاليا، لا في مُستقبلٍ أفضل، بل في مكانٍ نُحقّق فيه أحلامنا الفنّية على الشاشة الكبيرة.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

تلك الصالة، الوحيدة الموجودة في المدينة، لم يكن يقربها أعيان المدينة وناسها، لكنْ يتردّد عليها السكارى والحشّاشون والعاهرات والمنبوذون النازحون من الجبال، الذين يستقرّون في المدينة بين فينة وأخرى، قبل العودة إلى أماكنهم في البوادي. ذات يوم، مررت مع عمي مصطفى أمام السينما، ورغم بكائي وإلحاحي عليه للدخول، رفض (لاحقاً، سأعرف أنّ السبب مُتعلّق بالمال). وحيداً، صرتُ أفكّر في كيفية اقتحام ذلك العالم السحري، الذي منه تخرج الخيالات المُتراقصة على الجدار، كأنّها أشباح من سرابٍ. ذات يوم، ضبطني حارس البوابة أتسلّل خفية بين الناس، وطردني بعيداً عن الصالة. لم أستسغ قرار الطرد، وظللت أترصّد باب السينما، علّه يتضامن مع رغبتي، وهذا حدث بالضبط، إذْ تركني أتسلّل من داخل ممر صغير، وأتسلّق جداراً، أرى عبره الشاشة الكبيرة من شبّاك نافذة صغيرة. لأوّل مرة في حياتي، سأشاهد فيلماً في صالة سينمائية، وكان لروكي بالبوا.

بعد سنوات، سيُصبح الفيلم مرجعاً قوياً في طفولتي، لمعرفة وفهم معاني الحبّ والصداقة والتضحية، والجهد الذي يبذله المرء في فُسحة وجوده، ليظلّ حيّاً، رغم التأثّر بجراح الماضي. أنا مدينٌ لتلك المدينة أكثر من كازابلانكا، لأنّها قدّمت لي كلّ جميل ونبيل في الحياة. السينما، كما فهمتها من كاسيتات جدّتي، التي كانت تأتي بها من إيطاليا، عبارة عن سينما أكشن. لاحقاً، أخبرتني أنّها كانت تأخذها من جارةٍ إيطالية تعمل في مجال السينما، بعد أنْ تُخبرها أنّ حفيدها يعشق السينما. أغلب تلك الكاسيتات أفلام إيطالية، تتحدثّ عن الحرب والإيديولوجية والحبّ والالتزام، وتُمثّل اليوم مرجعاً قوياً للواقعية الإيطالية، التي حاول البلد الترويج لها منذ نهاية ستينيات القرن الماضي، مع أسماء وازنة، ستكتسح لاحقاً المَشهد السينمائي العالمي. ما السينما؟ فنّ يقوم على الترفيه والاستلاب، أم فنّ يُحرّر إدراكاتنا الواقعية، فاتحاً إياها على تحوّلات الواقع وانزياحاته البصريّة؟ فنّ مُؤلم، بقدر ما نعتقد أنّه يُجمّل حياتنا، ويُراكم خيباتنا، ويُعرّي أوهام الكائن وجُرحه؟ السينما كذلك، ولا شيء آخر.

السينما تَمَثّلٌ بصريّ، تتحكّم فيه ترسّبات لا نفهمها برّانياً، إلّا مع توالي السنوات، ونضج مُخيّلة الإنسان في علاقاته بالأفلام والمعرفة والحياة. لكنْ، ما غَنَمتُه من السينما، في طفولتي، كوابيس حقيقية تُجبرني على زيارة الطبيب، والزجّ بي في سراديب الجنون. فكلّما شاهدتُ فيلماً، كُنت أنام ليلاً في ذاك البيت الغاصّ بالجرائد والمجّلات اليسارية، التي كنت أسرقها من الأسواق الأسبوعية في البوادي، وبعضها مجرّد صفحات، وُضع فيها الحمّص أو الفول أو ربطة "النعناع".

كنت أعيد الفيلم في مُخيّلتي، وأبنيه مجدّداً بما يُلائم طريقتي وقناعاتي، فأحسّني أشخّص دور البطل، وأغيّر السيناريوهات، وأحوّل شخصيات جميلة إلى شريرة، والعكس أيضاً. بل كنت أغيّر دائماً نهاية الفيلم، بما يتماشى مع فهمي للسينما، وما ينبغي أنْ تكون عليه. أهذه موهبةٌ خفيّة، بدأت تتشكّل في ذاتي من دون حدسي بها؟ أم مجرّد رغبة في اقتحام فنّ الإخراج السينمائي، بعد كتابتي، لاحقاً، أوّل فيلمٍ قصير، أسميته "الحالم"، الذي أحتفظ به إلى اليوم؟

المساهمون