رندا ميرزا... فوتوغرافيا الجسد والذاكرة والواقع

05 سبتمبر 2022
المصورة اللبنانية رندا ميرزا (يوتيوب)
+ الخط -

تحظى أعمال الفوتوغرافية اللبنانيّة رندا ميرزا (1978) بأهميّة بالغة، لا لأنّها جعلت من الفوتوغرافيا المعاصرة أفقاً جديداً للتفكير والحلم، بل بحكم ما تطرحه على الفوتوغرافيا العربيّة، من اشتغالاتٍ فنّية مُكثّفة في علاقتها بالجسد والفضاء والذاكرة في لبنان. لذا فهي تُعدّ من أهمّ الفوتوغرافيات العربيّات اللاتي عملن على تشريح الاجتماع العربيّ وتطويعه داخل عملٍ فنّي. وإن كان وعيها بالصورة الفوتوغرافية حداثياً مُتقدّماً، ينأى بذكاءٍ بصريّ مُختلفٍ عن نموذج الفوتوغرافيا الحديثة، بما تنطبع به أشغالها من تأريخٍ وتوثيقٍ. وهو النّمط الفوتوغرافي السائد في البلاد العربيّة، حيث الكاميرا مجرّد عدسة ترصد الواقع بميكانيكية فجّة وتُؤرّخ أحداثه ووقائعه وشخصياته وأطلاله، من دون التفكير في موضعة هذا الواقع داخل مُختبرٍ بصريّ.
إذ تغدو فيه الصّورة مُمارسة فكريّة، تدفع الفنّان إلى التفكير خارج مسارب ومدارات الواقع، وأيضاً في أفق العلاقة التي ينبغي أن تُنتسج بين الصورة والجسد، بطريقةٍ تظلّ تحفر مجراها عميقاً في جسد هذه المُمارسة الفنّية، كما هو الحال في فوتوغرافيا رندا ميرزا، بما تمنحه للمُشاهد من رؤيةٍ تفكيكية تجاه الواقع اللبناني. وإذا كانت الفنّانة تتجنّب النّمط الفوتوغرافي الحديث القائم على السرد والوصف والتوثيق، فلأنّ مفهوم المعاصرة لديها يتّخذ بُعداً جدلياً ووجودياً تجاه الموضوع - المادّة، إذ الصّورة مُركّبة وتُضمر ولا تُظهر، وتكتم أكثر ممّا تبوح، إنّها أشبه بميلاد لغةٍ بصريّة جديدة تدين الواقع اللبناني ومآسيه، مُتجاوزة بذلك عتبات اللّغة والكلام والرمز. 
والحقيقة أنّ اختيار ميرزا الأفق الفوتوغرافي المعاصر يتجاوز كونه مجرّد معطى تاريخيّ أو فرضية علمية أو اختيار جمالي، بقدر ما يفرض نفسه كخلاصٍ وجوديّ يُقيم في تخوم الواقع والخيال. إنّ الصّورة لديها مُتحرّرة من كلّ شيءٍ، لكنّها تبقى خاضعة إلى معمار فنّي، لا يخرج عن تقاليد المهنة، وذلك من خلال إعادة تركيب صُوَر الأمكنة الجريحة التي تنتمي إليها. تعمل ميرزا على استخدام الماضي من أجل إدانة الحاضر اللبنانيّ، عبر سلسلةٍ من الصُوَر المجازية التي تُعرّي مآزق وتصدّعات المَدينة. 
ففي مجموعة "بيروتوبيا" (2011) تُصوّر الفنّانة اللافتات الإعلانية المُنتشرة وسط بيروت كنوعٍ من الاحتجاج الفنّي على طرق وآليات تفكير أعيان المَدينة في تحديد مواضعات عمرانية جديدة لبيروت ما بعد الحرب الأهلية اللبنانيّة (1975 ـ 1990) فقد لجأت ميرزا إلى صورةٍ احتجاجية ناعمةٍ مُتحرّرة من كلّ أيديولوجية عمياء، بل جعلتها الصورة مفتوحة على الفوضى اللبنانيّة، ودفعت الناس بطريقة ذكية إلى طرح أسئلةٍ اجتماعية حول مصير مدينتهم في ظلّ التحديث العمراني من خلال بناء منازل جديدة للمواطنين، بما يُضمره ذلك من جشعٍ اقتصادي وتوحشّ معماريّ يُقذف بالتراث اللبناني الغنيّ وراء ركامٍ من المنازل المعاصرة التي لا تزيد البلد إلى قهراً وتصدّعاً. إنّ ميرزا من خلال صُورها تلك، بدت وكأنّها تستشرق المُستقبل بمُدوّنتها الفوتوغرافية، إنّها تُغذيّ اللاشعور الجمعي اللبناني وتجعله في قلب المعركة السياسيّة حول مصير بيروت، أمام التغوّل العمراني الذي يستهدف كلّ آثار وذخائر وكنوز مدينة بيروت بمعمارها المُختلف والمُتنوّع.

ورغم انتماء ميرزا إلى الزمن المعاصر، فهي تثور على مفهوم التحديث الذي يُحوّل فضاءات المدينة إلى بضاعةٍ تجارية قابلة للتفاوض حسب السعر المدفوع. هذا مع أنّ صُوَرها الفوتوغرافية لا تحكي ولا تسرد أيّ شيء، بل تترك المُشاهد في جسده يستوعب التحوّل الذي تشهده بيروت، بما يجعل مُنجزها الفوتوغرافي يُدرك، انطلاقاً من رموزٍ تُحدّد هويّة الصورة الفنّية، فتدفع المُشاهد إلى نسج صداقة فكريّة مع حرقة السؤال. إنّ فوتوغرافيا رندا ميرزا لا ترتهن بميكانيكية تجاه الواقع، بل ترصد هذه التحوّلات من خلال تأثيرها على الفكر والمُتخيّل. هكذا يبرز مفهوم الهويّة البصريّة في أعمالها، باعتبارها علامة وجودٍ بلدٍ، بما يجعلها تتحدّى مُختلف التنميطات البصريّة الهجينة التي تصبغها الدولة على معمار بيروت عبر المُتاجرة في هذه الهويّة البصريّة.
تتّخذ فوتوغرافيا رندا ميرزا من الواقع اللبناني مسرحاً للتخييل، من أجل خلق طباقٍ بصريّ، يدفع المُشاهد إلى عدم التمييز بين الواقع والخيال. لكنّ الذاكرة في أعمالها تظلّ الأكثر نضارة، إنّها أشبه بمُختبرٍ قابل للتجديد والتجدّد، لكنّ الذاكرة، لا تحضر بوصفها مداراً لتخييلٍ يجعل الصورة الفوتوغرافية تطرق باب التراث، وإنّما فقط كمُحرّك للعملية الفنّية ونسقٍ جماليّ قادرٍ على تأطير التجربة ومنحها هويّة فكريّة خاصّة. لكنْ بين عُنف الذاكرة وفداحة التاريخ، ثمّة واقع لبناني مُرتبك، يُعدّ بالنسبة للفنّانة خيطاً جمالياً ناظماً، يربط تاريخ لبنان وذاكرته الحضارية بتغيّرات هذا الواقع. إذ يستحيل الفصل بينهما، لكونهما يُشكّلان صرحاً بصرياً، لا سيما في مشروعها "العوالم المتوازية" الذي تستدعي فيه العلاقة المُتواشجة بين الواقع وذاكرة الحرب التي لم يندمل جُرحها بعد. 

لكنّ الصورة تحضر بوصفها خطاباً احتجاجياً يضع عنصر السياحة في دوّامة الحرب، فتبدو الصُوَر ساخرة من السياحة، هنا تتدخّل العين بكل جدارتها لتُعيد للعقل صرامته، حتّى يُصبح المُشاهد في علاقةٍ حميمية مع الصورة، لأنّها لا تجعله يلتهمُها في صمتٍ أو يستمتع بما تخلق من فتنةٍ بصريّة، بل انطلاقاً ممّا تُحدث في جسده من رجّة اجتماعية تدفعه إلى الثورة والصراخ في وجه الخطاب السياسيّ اللبناني القائم على إظهار الجانب السياحي داخل مدينةٍ لم تُضمّد جُرحها بعد. 
أمّا في معرضها "غرام وانتقام" بالاشتراك مع الموسيقيّ اللبناني ريس بيك (1979)، فقد عملت فيه على استعادة أرشيف السينما المصريّة، واستعادة الدور المركزيّ للمرأة خلال القرن العشرين عبر رومانسيةٍ حالمة ساهمت في تحرير المُخيّلة العربيّة، لا سيما من الجانب الإيروسي أو الشبقي الذي لم يكُن المجتمع قاسياً معه في تلك الفترة.

المساهمون