رشيد مشهراوي "من المسافة صفر": أفلام من غزة

28 يونيو 2024
الطفلة رزان منير عرفات التي فقدت كل عائلتها وساقها، مارس 2024 (جهاد الشرافي/ الأناضول)
+ الخط -
اظهر الملخص
- رشيد مشهراوي يطلق مبادرة لتمكين شباب غزة من صناعة أفلام تعبر عن معاناتهم، مستخدمين أساليب متنوعة من الرواية والتوثيق، وتستعد هذه الأفلام للعرض في المهرجانات العالمية بدعم من موسيقى نصير شمة.
- الأفلام تتميز بأسلوب واقعي وإنساني، مستلهمة من الواقعية الجديدة الإيطالية وسينما نوڨو البرازيلية، مصورة في ظروف صعبة بموارد محدودة لتقديم قصص تلامس الوجدان عن الحياة تحت الحصار في غزة.
- مشروع "من المسافة صفر" يهدف لإبراز القدرات الإبداعية للشباب الفلسطيني وتقديم رؤية صادقة من قلب غزة، معتبراً السينما وسيلة للتعبير عن الإنسانية والحفاظ على الذاكرة، مؤكداً على قيمتها الفنية والتأثيرية المستمرة.

الفكرة للمخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: أنْ يُنجز مخرجون شباب من غزّة أفلاماً "شغل بيت" عن معاناتهم ومعاناة ذويهم وفلسطينيي القطاع عموماً، زمن حرب الإبادة والتدمير التي يشهدها القطاع المنكوب والصامد والمتألّم حتى الساعة، بأسلوب ونوع يختارونهما، روائيّاً أو توثيقيّاً، أو رسوماً ودمى. خيار تعبيريّ مفتوح أنتج أفلاماً قصيرة عدّة، باتت في مرحلة ما بعد التصوير (بوست برودكشن)، توليفاً وتصحيح ألوان ودمجاً للصوت والموسيقى (قدمّها الموسيقي العراقي نصير شمّة للأفلام كلّها)، وغير ذلك من المراحل المعهودة، لتجهز قريباً للعرض والمشاركة في المهرجانات العالمية، التي تتنافس على استضافتها، ولا عجب فغزّة حديث العالم كلّه.

المقاطع المعروضة في مقابلات تلفزيونية (أبرزها مع منى الشاذلي على شاشة أون) من معظم الأفلام تقدّم فكرة وافية عن مضامينها وأساليبها وقيمتها، وتحيل إلى مدارس عدّة في تاريخ السينما، كـ"الواقعية الجديدة الإيطالية"، اللصيقة بالحرب العالمية الثانية، مع روّاد ومعلمين كبار، أمثال روبرتو روسّليني (روما مدينة مفتوحة) وڨيتوريو دي سيكا (سارق الدراجة) ولوكينو فيسكونتي (الأرض تهتزّ)، حيث الواقعية والعمق الإنساني والتشديد على فظاعات الحرب ومآسيها الكبرى. هناك أيضاً شبهٌ بـ"سينما نوڨو" (السينما الجديدة) البرازيلية، ورائدها الشفيف والملتزم غلوبر روشا، الذي دعا إلى إنتاج الأفلام بأدنى كلفة (هذا تماماً ما فعله سينمائيّو غزّة الشباب) وتصويرها في الأماكن الواقعية للحدث، والاستعانة بالناس العاديين لا الممثلين. كلّ ذلك طبّقه منجزو الأفلام تحت الموت والحصار والتدمير.

إذن، هذه أفلام لها مراجعها الثابتة والكبيرة في تاريخ السينما، تندرج في خانة الالتزام وصنع "سينما الحقيقة" والفوريّة (هنا والآن)، أصدق أنواع السينما وأقواها تأثيراً، رغم إمكاناتها التقنية والإنتاجية الضعيفة، التي تداني صفر موازنة أحياناً. فالأداة ليست مهمّة، ولا نوع الكاميرا ومعدات الإضاءة والصوت، بل المضمون الإنسانيّ الذي يخاطب الإحساس والوجدان بصدق الموقف وقوّة التعبير.

بمشروعه، أراد رشيد مشهراوي "نفض الغبار عن أرواح هؤلاء الشباب، والقول لهم: انهضوا واعملوا، لشرح إنسانيتنا للعالم عبر السينما". فمشروع "من المسافة صفر" ينطلق من منح فرصة للسينمائيين الموجودين في قلب الحرب (كما "في قلب الظلام" لدى كونراد، الذي جسّده كوبولا وبراندو في "القيامة الآن")، أي علاقة الشخص بالحدث وبما يجري من المسافة صفر، وليس وجهة نظر عن بعد.

بنى رشيد مشهراوي اختياراته على الموهبة والفكرة الجديدة المختلفة عمّا لم يُحكَ من قبل، وعلى قابلية التنفيذ في الوضع الصعب. على هذه الأسس، اختير الشبّان من غزّة، وشرعوا في تصوير أفلامهم بكاميرات فيديو بسيطة، وعلى ضوء الموبايل أحياناً، ومع فريق عمل صغير جداً. كلٌّ منهم يُرسل إلى مشهراوي المادة التي صوّرها، غالباً بصعوبة شديدة، وعبر شرائح يوصلها صحافيون مراسلون في غزّة. ظروف التصوير صعبة جداً ومعقّدة في غياب الكهرباء، مع الاعتماد على ما توفّر من طاقة شمسية لشحن بطاريات التصوير والكمبيوترات المحمولة، الوسيلة الأساسية لرؤية المادة المصوّرة بتوليفها الأولي غير النهائي.

اللقطات التي شوهدت مستلّة من "24 ساعة" لعلاء دامو، الذي يصوّر عملية إخراج شاب من تحت الركام، وإلى جانبه شاب آخر يُطبق جداران على صدغيه، ويبدو مستشهداً. "سينما حقيقة" بكلّ معنى الكلمة، تولّد تأثيراً واقعياً هائلاً. و"جنّة الجحيم" لكريم سطوم، عن شاب يريد اختبار النوم في الكفن وهو حيّ، وإذ يمانع أحدهم تسليمه الكفن، يسأله الشاب: "هل أحظى بكفن لو استشهدت؟"، فيجيبه بنعم، فيردّ: "دعني إذاً أستمتع به في حياتي". الجنة كَفَنٌ، والواقع في غزّة جحيمٌ. سخرية سوداء من الأقسى تستدعي ابتسامة مرّة.

هناك أيضاً "جاد ونتالي" لأوس بنّا، عن شاب يبكي حبيبته نور الراقدة منذ أسابيع تحت الأنقاض؛ و"ليس للبيع" لباسل المقدسي، عن الفرح البريء وسط الألم، لأطفال يرسمون ويطلقون طائرات ورقية ملوّنة، في صورة مضادة للحرب؛ و"قرابين" لمصطفى نبيه، عن امرأة نازحة في القطاع تفقد الشعور بالمكان والزمان؛ و"إعادة تدوير" لرباح خميس، عن إعادة استخدام الماء نفسه في خمسة استعمالات مختلفة، بسبب شحّ مادة الحياة هذه، وندرة وجودها؛ و"سِيلْفي" لريما محمود، عن شابة تنتظر في صفّ طويل أمام حمّام عام، مستمعةً أثناء انتظارها إلى حكايات النساء.

إضافة إلى "خارج الكادر" لنداء أبو حسنة، عن رسامة شابة تحكي عن مرسمها المدمّر، ومحاولة إنقاذ بعض لوحاتها وأعمالها الفنية؛ و"جلد ناعم" لخميس مشهراوي، فيلم تحريك نتاج ورشة للصغار، من وحي الواقع المرّ الذي يحيون فيه؛ و"المعلّم" لتامر نجيم، عن الحصول الصعب جداً على الحصص الغذائية قبل نفادها، في مخيم اللاجئين على رمال غزة.

التحفة المنتظرة في المجموعة "عذراً للسينما" لأحمد حسونة: شريط بديع بالأسود والأبيض، شديد الشبه بسينما الواقعية الجديدة الإيطالية، يظهر فيه باللقطات الواسعة رمي المساعدات بالمظلاّت، وركض المئات في اتّجاهها أو تجاه الشاحنات المحمّلة بالمساعدات برّاً. في هذا الفيلم الرائع والمدهش، الذي يشي بموهبة سينمائية استثنائية (ليُحفظ اسم أحمد حسونة منذ الآن)، هناك لغة خارقة تتميّز بلقطات "ترافلينغ" مرافقة، رغم الإمكانات التقنية شبه المعدومة. يذكّر الفيلم أيضاً بـ"أنا كوبا"، وزوايا التصوير السفلية والواسعة، وأجزم بامتلاك حسونة عيناً سينيفيليّة مثقّفة ومشبعة بالمشاهدات والمعارف السينمائية الواسعة.

يُصرّ رشيد مشهراوي على الانحناء أمام هؤلاء المخرجين الشباب، الذين لبّوا نداءه إلى صنع الأفلام، مُعتبراً نفسه جسراً موصلاً بينهم وبين منصّات العرض العالمية، ومستشاراً فنياً لهم كي تخرج تجاربهم مكتملة، شكلاً ومضموناً. فهذه الأفلام، بالنسبة إليه سينمائيّاً، تحفظ الذاكرة أكثر من التقارير الإخبارية التلفزيونية ذات الذاكرة القصيرة، وفق تعبيره، التي تتعامل مع الحدث، ثم مع الذي يليه بعد ساعة أو بضع ساعات. يقول إنّ أفلامه التي صنعها قبل 30 سنة "تُعرض حتى يومنا هذا في المهرجانات في العالم، وتعيش بقيمتها الفنية لا بما هي ردّ فعل على فعل. هكذا أفلام شباب غزة اليوم، ستظلّ تُشاهَدَ بعد سنوات طويلة، من دون أنْ تفقد وقعها وتأثيرها عقب انتهاء الحدث".

المساهمون