"ربيع آخر": مواد أرشيفية لوثائقيّ صربي عن الجدري

07 ابريل 2023
كوفاسفيتس و"ربيع آخر" في "مهرجان كارلوفي فاري الـ56" (الموقع الإلكتروني للمهرجان)
+ الخط -

 

تنبع قيمة "ربيع آخر" (Another Spring)، للصربي مْلادِن كوفاسفيتس، من أمرين اثنين:

الأول أنّه يتناول تفشي وباء الجدري في يوغوسلافيا قبل 50 عاماً، الذي يُعدّ أحد أكثر الأمراض فتكاً ورعباً وإلهاماً في تاريخ البشرية، والذي قتل نحو 500 مليون شخص في القرن الـ20 وحده. مع ذلك، يبدو الفيلم كأنّه يحكي عن وباء كورونا من حيث كارثيّته: البحث عن المريض رقم واحد، سُبل تفشّي العدوى بسرعة البرق، كيفية تحديد المصدر، سقوط ملايين الضحايا، طرق المقاومة وحصارها عبر إجراءات احترازية.

الثاني متأتٍ من البناء السردي التشويقي، ذي الإيقاع اللاهث، للوقائع التاريخية، كأنّها عمل درامي روائي ممتع، فنياً، رغم قسوة مشاهد كثيرة، إذْ يُؤكّد أنّ التوظيف الخلّاق للمادة الأرشيفية، وحدها، قادر على بناء فيلم وثائقي ممتاز، بالاستناد إلى لقطات أرشيفية عمرها 50 عاماً، من خلال تجربة عاشها أحد أبرز الأطباء المشهورين في مكافحة الأوبئة، البروفسور زوران رادوفانوفيتش، الذي له دور تاريخي لا يُنسى في الحدّ من انتشار الجدري في يوغوسلافيا آنذاك.

"ربيع آخر" (إنتاج صربي قطري، 2022)، المعروض في برنامج "بروكسيما" في الدورة الـ56 (1 ـ 9 يوليو/ تموز 2022) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي"، أحد 3 وثائقيات تناولت موضوع الأوبئة: "مستشفى المقاطعة" للمخرجين البلغار زْلايتِنا تِنْفا وإيفان تْشرْتُف وإليان ماتُف، و"إغلاق حديقة الحيوانات" للنمساوي أندرياس هورفاث، اللذين عاينا كورونا وآثاره على الإنسان والحيوان.

في "ربيع آخر"، سرد الطبيب الحكاية بصوته، بدءاً من عام 1969، حين قرّر زيارة الهند بسيارته الصغيرة، فكان عليه أنْ يُطعَّم ضد الأوبئة المنتشرة، لأنّه سيمرّ على بنغلادش وباكستان. تطعيم سيحميه، عام 1972، من تفشّي الجدري في يوغوسلافيا السابقة. في فبراير/ شباط من ذاك العام، غيّر باص وفدٍ كان في الحجّ طريقه، ومرّ في بغداد لزيارة الجوامع والبازارات لشراء هدايا لعائلات أعضاء الوفد.

كان التحدّي أنْ يُعثَر على المريض رقم واحد، ثم حصر جميع الذين اختلط بهم. في الفيلم، الاتّهام موجَّهٌ إلى العراق، الذي تكتّم عن ظهور المرض. أي أنّ بغداد مصدر العدوى. أشار البعض إلى إبراهيم حوتي، صاحب المحل الذي اشترى منه لطيف غليونَين اثنين، قبل مواصلة الباص رحلته إلى يوغوسلافيا السابقة، في 15 فبراير/ شباط.

فور دخوله بيته، بات لطيف مريضاً. بعدما أيام قليلة، أصيب بحمى شديدة: ارتعاش من البرد، رغم نار الموقد بجواره. زاره أقارب له فأصيبوا هم أيضاً. في حالته تلك، تنقّل بين 3 أماكن، في كلّ منها ظهرت الأعراض نفسها على أناسٍ عديدين. لاحقاً، اعترف لطيف في المستشفى بأنّه لم يتّخذ أي إجراء احتياطي. كانت حالته نموذجية لأعراض الجدري، وفق ترجيح البروفسور رادوفانوفيتش والهيئات الطبية.

يتقصّى "ربيع آخر" التحرّكات كلّها التي قام بها لطيف، وكيفية تفشّي العدوى. في ذاك اليوم، ركب سيارة إسعاف مع امرأة حامل وزوجها. أخبر طبيبٌ طلّابه عن حالة لطيف فذهبوا إليه لمعاينته. طفلٌ مشاكس، مُفعم بالحيوية، في الغرفة المجاورة، دخل عليه، وكان فضولياً: "ما خطبك سيدي؟ كيف أساعدك؟". الطفل مصاب بنقص النمو منذ ولادته، ولم يُطعّم، فمات لإصابته بالجدري من لطيف. مساء، تدهورت حالة لطيف، وسقط في الحمام، وبدأت أسوأ مراحل هذا الفصل الدرامي المرعب. قرّر الأطباء نقله إلى مستشفى جراحي. هناك، أصيب بعض المرضى. الأطباء أنفسهم قرّروا أنْ لا علاج لحالته. لكنْ، في طريقه إلى المصعد، بدأ ينزف بغزارة، فوضع في قسم "العناية المركَّزة". في هذا اليوم، فحصه طبيب جراح، أصيب بالعدوى هو أيضاً، إضافة إلى ممرضة شابة كانت تعتني به، ولم تُطعَّم، فأصيبت بنزيف حاد قبل وفاتها.

بعد وفاته، رفضت عائلة لطيف تشريحه، مُصرّةً على أنْ يتمّ الدفن على الطريقة الاسلامية. في الغسل، كانت الآفات والدماء في كل مكان، فأصيب الجميع بالعدوى باستثناء الإمام الذي غسله، لأنّه مُطعَّم قبل سفره لأداء مناسك الحج.

انتشر المرض في كل مكان، واتّخذت المستشفيات احتياطات احترازية، لكنْ بعد أكثر من شهر، ثمّ أُعلِن عن التأكّد من أول حالة، في 14 مارس/ آذار. قبل ذلك، كان مجرّد اشتباه بالمرض، الذي كان يتفشّى بسرعة خرافية في كوسوفو وبلغراد.

يُشكّل الجانب البصري، الذي يستمدّ سرده من الأرشيف، بطلاً أساسياً، مانحاً العمل عمقاً ومصداقية وثراءً. يتنقّل من حالة فقدان الثقة، والخوف الذي شمل فرق التمريض والموظفين، خاصة في ظلّ البيروقراطية التي لم تفكّر في حماية أرواحهم من هذه العدوى الفتّاكة. كما تأخّر إعلان حالة الطوارئ الطبية في البلد. مع ذلك، ظلّ الوازع المهني والأخلاقي موجوداً لدى بعضهم، والذي كان وراء قرارات حاسمة للأطباء والمتخصّصين بعلم الأوبئة، ما ساهم في محاصرة الوباء.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

مع تصاعد القلق والفزع، يُصوّر "ربيع آخر" زيارات الفرق الطبية إلى البيوت لفحص الناس: أخذ عيّنات من الدماء، بينما النساء يُرضعن أطفالهن. لقطات مرعبة لأطفال مُصابين، وأخرى في المعمل. محاولات الأطباء والممرّضين وقاية أنفسهم، بارتداء أقنعة الوجه والقفازات، كأنّهم "رجال الفضاء". كما برز دور الإعلام في التوعية: لقاءات تلفزيونية مع أطباء للتحدّث عن المرض ونطاقه وحجم العدوى، ولقاءات مع ممرّضين ومتطوّعين، بعضهم وافق على العمل لاعتباره أنّ هذا واجبه، بينما تحكي ممرضة عن موت 4 زملاء لها، وتعاملها مع المرضى من دون إجراءات حماية وتطعيم، متسائلة: "أينتظرون موتنا نحن أيضاً؟". ممرّض آخر حكى كيف أنّ مفتّش الإجراءات الصحية للبلدية أدرك أنْ لا أحد يُريد نقل الجثث، فردّ على ذلك بالقول: "حسناً. سأنقل الجثث بنفسي".

بلغ الوضع مرحلة الخطر، فبدأ تعقيم المنازل. وُضعت تحذيرات على أبوابٍ لها: "في هذا المنزل مُصاب بالجدري. أي زيارة خطرٌ جداً". وبدءاً من 15 مارس/ آذار، ذاك الربيع الآخر، أصبح مؤكّداً أنّ وباءً يكتسح يوغوسلافيا السابقة، لكنّ الإعلان عنه حصره في كوسوفو.

بعد 35 دقيقة، عاد المخرج إلى لطيف، وإصابة أخيه. إذْ طلب الطبيب إعادة استخراج جثمانه وتشريحه، فتمّ التأكّد من ظهور حالات إيجابية في بلغراد أيضاً، فوُضع البعض في الحظر، وبدأ جمع المعلومات لمعرفة كلّ من اختلط بلطيف.

هناك 4 مستشفيات للحجر، أُضيف إليها 8. مريض زاره معارفه في المستشفى، فطلب الطبيب لائحة بأسماء كل مَنْ تواصل معه، فأُحصي 32 شخصاً، فُرض عليهم حجر صحي، بينما أسرع نحو 3 آلاف شخص إلى المستشفيات، معظمهم اختلط بلطيف قبل وفاته.

يقول رادوفانوفيتش، راوي الأحداث، أنّه مُطمئن إلى أنّ تطعيمه سيدوم 3 سنوات. لذلك، وافق على مواصلة العمل في ظروف كهذه. لكنّه تناول جرعة منشّطة من التطعيم، حصل عليها آخرون أيضاً، كانوا مضطرين للانتظار لتطوير الأجسام المضادة: "في هذه الأسابيع، لم أذهب إلى منزلي سوى مرة واحدة. حينها، لم أصعد، بل بقيت في السيارة، ثم أحضرت زوجتي الأولاد، ولوّحت لهم من وراء الزجاج"، كما كتب البروفسور في يومياته، مؤكّداً أن "الأيام التالية لم تكن فيها راحة أبداً".

كانت يوغوسلافيا السابقة في حالة صدمة. لذا، كان لا بُدّ من إجراءات صارمة، وفرض التطعيم على طلاب الجامعات وأماكن النوم الخاصة بهم (85 بالمائة منهم). وُضعت خطة للتطعيم قضت بأنْ يُطعَّم أطفال المدارس أولاً. هناك شروط ومحاذير، لأنّ البلد في حالة وباء، لكنْ تمّ تجاوزها، كإعطائه إلى الحوامل. الزحام والتدافع لأجل التطعيم رهيبان، خاصة مع عدم كفاية المتاح. "منظمة الصحة الدولية" أمدّتهم بالمزيد، ودول قدّمت معدات طبية وجرعات إضافية من التطعيم.

18 مليون نسمة تم تطعيمهم في يوغوسلافيا السابقة، وتمّ القضاء على الوباء من دون أنْ ينتقل إلى أوروبا. فبعد إعلام "منظمة الصحة" والعراق، أغلقت الحدود، فلم ينتقل المرض إلى ألمانيا.

اختُتم الفيلم بلقطاتٍ احتفالية بالقضاء على الوباء (مايو/ أيار 1972)، وتكريم الفرق الطبية، حاملة الكأس في الاستاد، مع إطلاق الألعاب النارية تعبيراً عن البهجة.

المساهمون