ذاكرة صالات لبنانية تتصدّى لخراب الراهن

17 يناير 2022
هادي زكّاك بين مغالي عون ومايز الأدهمي أثناء العمل على "العرض الأخير" (فيسبوك زكّاك)
+ الخط -

يصعب فصل ما يحصل في لبنان، سينمائياً، عن راهنٍ مضطرب، يعاني خراباً فظيعاً في شؤون الحياة اليومية. يتمثّل الحاصل بعودة سينمائية إلى ماضي البلد، عبر استعادة ذاكرة سينمائية لطرابلس وشارع الحمرا البيروتي. للمكانين تاريخٌ حافلٌ في السينما، صالات وأفلاماً وتوزيعاً واشتغالات. العودة الراهنة إلى ماضٍ قديمٍ، في لحظة اضطراب وخراب، تعني شوقاً إلى حالةٍ غير مؤهّلة لاستعادة حيويتها قريباً. إسرافٌ فردي في سرد ذكرياتٍ، تنبثق من الذاتيّ لتقول شيئاً عن المشهد العام، دليلُ قلقٍ وخيبةٍ، أكثر من كونه تحسّراً وبكائيات. الصدمة المتأتية من "الانهيار الكبير" للبلد، منذ "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019) على الأقلّ، تُحرِّض على فعلٍ كهذا، وإنْ كان في الفعل نفسه تحسّر وبكائيات.

المخرج والباحث هادي زكّاك منهمكٌ، منذ أعوام، في نبش الماضي السينمائي لطرابلس، عاصمة الشمال اللبناني. النتيجة مزدوجة: كتابٌ بعنوان "العرض الأخير ـ سيرة سيلَما طرابلس" (ZAC Films، الطبعة الأولى، 2021)، وفيلمٌ وثائقيّ يُصوِّر مرحلةً ووقائع وانقلابات في المدينة، من خلال صالاتها السينمائية المُقفلة كلّها منذ أعوامٍ طويلة، بدءاً من المرحلة اللاحقة للنهاية المزعومة للحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990). "أمم للتوثيق والأبحاث" تُنظِّم "معرضاً قيد الإنشاء" بعنوان "طرابلس سكوب ـ عودٌ على طرابلس في ثقافتها وممارستها السينمائية"، تنسيق ناتالي بوشر، في منطقة "شكّا" (شماليّ لبنان)، يعرض المتعلّقات الخاصّة بأرشيف "الشركة السينمائية التجارية طرابلس لبنان"، الذي (الأرشيف) تُنقذه "أمم" من النسيان والإهمال والتجاهل، والذي يكشف شيئاً من أحوال تلك المدينة، عبر صالاتها المنتشرة فيها منذ ثلاثينيات القرن الـ20.

أرشيفٌ يُعثَر عليه، فيُعالج بما يُلائم ما فيه من إرثٍ غنيّ بمعطيات، لن تُحاصَر بالسينما فقط، إذْ تقول السينما في تلك المدينة حياةً وعلاقاتٍ اجتماعية واقتصاداً وعيشاً. هذا نواة "سيلَما" (هكذا تُنطَق السينما باللهجة الطرابلسية) أيضاً. الكشف عن الأرشيف، والتجوّل في ماضي المدينة وإرثها السينمائي المفتوح على كلّ شيءٍ آخر، يمزجان معاً رغبةً في النفاد من خراب اللحظة الراهنة القاتلة، ورغبةً في توثيقِ تاريخٍ وذاكرة، لا يزال عارفون فيهما أحياء يتذكّرون فصولاً منهما؛ ويبوحان بمحطاتٍ ومسارات وانفعالات حاصلة فيهما.

استعادة سيرة السينما في طرابلس اللبنانية (هناك نحو 40 صالة فيها، تعرض حينها أفلاماً معروضة في بيروت في الوقت نفسه، أو غير معروضة في صالاتها أحياناً عدّة) تُذكِّر بالثراء متنوّع الأشكال والمسائل، الملتصق بالمدينة وناسها في أزمنةٍ عريقة. كأنّ تخريبها، اجتماعياً وعمرانياً واقتصادياً، مقصودٌ، وإغلاق الصالات كلّها في أعوامٍ متلاحقة جزءٌ من التخريب المطلوب، إذْ يبدو أنّ حيويتها ونبضها وحماستها للانفتاح والعيش والإنتاج أقوى من احتمال البعض، الذي (البعض) يُقرِّر تحطيمها، وتحطيم إرادة ناسها في الانفتاح والعيش والإنتاج.

كتاب هادي زكاك ومعرض "أمم"/بوشر ردٌّ ـ وإنْ يكن متأخّراً، فالعمل على الأرشيف مُضنٍ، ويحتاج إلى وقتٍ وصبرٍ وجهدٍ وتمويل ـ على التخريب، من خلال إنعاش ذاكرة السينما في المدينة، أي إنعاش جزءٍ أساسيّ من الثقافة والفنون والحياة فيها، فلطرابلس حياة أخرى إلى جانب السينما أيضاً، لما فيها من اشتغالٍ في المسرح والفنون والثقافة السجالية والسياسية، بمعناها الأنقى من تسطيحٍ طائفي مذهبي فاسدٍ للمفردة، ولثقافتها وأنماط عملها؛ من دون تناسي تلك الحيوية الحزبية القديمة فيها، المنافية لمنطق أحزاب السلطة والطوائف، وهذه متورّطة، بشكلٍ أو بآخر، في آلية التخريب.

"انتفاضة 17 أكتوبر" المعطّلة تقول أيضاً إنّ لطرابلس حيوية تنتفض على مشروع التخريب طويل الأمد. المشاركة العملية في الانتفاضة تكشف عمق أصالة المدينة في ارتباطها بتاريخ وذاكرة لها، وتؤكّد أنّ أناساً كثيرين فيها منقلبون على قادة التخريب، وإنْ كان النزاع معهم غير متكافئ. كتاب زكّاك ومعرض "أمم"/بوشر ينضمان إلى هذين الكشف والتأكيد، بنبشهما في تاريخ المدينة وذاكرتها عن مصادر حيويتها وإشعاعها، من خلال السينما، بصالاتها وأفلامها واقتصادياتها واجتماعها.

 

 

شيءٌ من هذا يحصل في بيروت أيضاً، متّخذاً ـ إلى الآن ـ شكل مرويات شفهية، أو رغبات معلنة للبعض في توثيقٍ بصريّ لذاكرة شارع الحمرا البيروتي، بعد بلوغه ـ مع المدينة والبلد ـ إحدى أسوأ الحالات المدينية، في ظلّ "الانهيار الكبير" حالياً. تستند المرويات إلى تاريخ قريب، يبدأ في خمسينيات القرن الـ20، وينتهي مع نهاية تسعينياته تقريباً. صالات السينما في الشارع امتدادٌ لغليان يشهده طويلاً، وتعجز حربٌ أهلية عن تدميره كلّياً، فتحاول جرّافات سلمٍ أهلي ناقص وهشّ إلغاءه من خريطة "مدينة عريقة للمستقبل"، غير متمكّنةٍ من أنْ تولد في مُجمّعات وناطحات سحابٍ فارغة.

غليان شارع الحمرا منبثقٌ من صالاتها (10 صالات ستكون الأبرز دائماً، أوّلها "سينما الحمرا")، القائمة فيه أو في أزقّة قليلةٍ متفرّعة منه، ومن حالةٍ اجتماعية وثقافية واقتصادية، تساهم في بلورة حضوره الجغرافي والعمراني. الانتقال إلى مناطق بيروتية "جديدة" (سوديكو، فردان، الأشرفية)، بدءاً من مطلع التسعينيات الماضية، متأتٍّ من تفكيرٍ (سيُكتَشف لاحقاً أنّه صائبٌ حينها) بضرورة تغيير فعليّ لنمط المُشاهدة، وشكل الصالة وموقعها الجغرافي.

الخطوة الأولى في الانتقال ستكون لشبكة "أمبير" (آل حدّاد)، ما يُثير توتّراً للعائلات السينمائية الأخرى (عيتاني، ماميش، فتح الله)، التي تقول بضرورة البقاء في الشارع، من دون قدرةٍ فعلية على تجديد الصالات وتأهيلها بلوازم التقنيات الحديثة، ومن دون قدرة على إحياء الشارع نفسه، العاجز عن تطوير ذاته، بعد الخروج من تلك الحرب. فالجهات المسؤولة، العامة والخاصة، غير راغبةٍ في ذلك، وإنْ كانت تدّعي حرصاً (مصطنعاً) عليه، ورغبةً (معطوبة) في إنعاشه.

صالات عدّة في شارع الحمرا تختفي تدريجاً، بمرور الأعوام: بعضٌ أول يُصبح مكاتب لمصارف، تحتلّ الشارع شيئاً فشيئاً؛ بعضٌ ثانٍ يتحوّل إلى مخازن كبيرة للملابس، أو إلى مسرحٍ (مسرح المدينة في صالة سارولا)، يحتاج إلى تأهيلٍ كاملٍ؛ بعضٌ ثالث يُغلَق تماماً، وتكاد واجهته تغيب في الغبار والعتمة والانكفاء والخيبة.

الحاصل في الصالات منسحبٌ إلى مجالات أخرى أيضاً، فالمحلات والمقاهي والمطاعم والحانات تتغيّر كلّياً، والمصارف تزداد غطرسةً في الشارع، وترفع أبواباً حديدية (كمحلات أخرى) بسبب "انتفاضة 17 أكتوبر"، وبسبب أكبر عملية نصبٍ ماليّ في تاريخ الأمم. العتمة قاتلةٌ، ليلاً كما في النهار. الصحافة غائبةٌ، رغم أكشاكٍ قليلة تبيع صحفاً منفضّة عن المهنة وتقاليدها وأخلاقياتها. مكتبتان أساسيتان فقط، والحسّ الاستهلاكيّ طاغٍ في جوانب الشارع وقلبه غير النابض. مبانٍ قديمة، مُصابة بعطب الفراغ المدوّي، وأخرى مُجدَّدة تفشل في ضخّ حيويةٍ مطلوبة لشارع مليء بضجيج كثير من أجل لا شيء.

حُطام صالات السينما، في طرابلس وشارع الحمرا البيروتي، يعكس خراباً ساطعاً في بلدٍ وحياةٍ واجتماعٍ واقتصادٍ. نبش تاريخٍ وذاكرة مطلوبٌ، إذْ يُفترض بالعودة إليهما أنْ تؤسِّس وعيّاً بحيوية عيشٍ وعلاقاتٍ وتفاصيل يومية. الجهد المبذول في إصدار كتابٍ، وإنتاج فيلم، وتنظيم معرض، جزءٌ من همّ فرديّ في حماية مخزون كبير من المعطيات والوقائع من الاندثار.

لكنْ، أيكفي هذا للخروج من خراب الراهن، وموت الآنيّ، وانعدام أفق النجاة؟

المساهمون