دييغو مارادونا... على ملعب يفترشه الرقص والأغنيات

06 ديسمبر 2020
"رأيت مارادونا... وكذلك وقعت في الحب" (Getty)
+ الخط -

في الجانب المفعم من كرة القدم، تُكتب نوتة موسيقية، بينما الجمهور يرتجل أغاني تملأها المحبة، أجملها كانت عن مارادونا. لا يوجد لاعب كرة قدم التصقت مسيرته بالموسيقى مثل دييغو، ليس لكونه أكثر من تناولته الأغاني بين لاعبي الكرة، هو أيضاً غنى ورقص داخل الملعب وخارجه. وهناك أغنية إيطالية تنبأت بأمجاده.

آمنت به الأرجنتين منذ أن بزغ نجمه في أرجنتينيوس، باعتباره فتاها الذهبي، لكنهم انتظروه ليمنحهم كأس العالم حتى أصبح قديساً. على خلاف ذلك، آمنت به نابولي منذ اللحظة الأولى، عند تقديمه أول مرة لجمهور النادي في ملعب سان باولو، هتفت الجماهير باسمه، وغنّت واحدة من أشهر أغاني ملاعب إيطاليا والعالم "ماما ماما.. هل تعرفين لماذا قلبي ينبض. رأيت مارادونا، رأيت مارادونا.. وكذلك وقعت في الحب".

ارتجّت نابولي بأقدام مشجعي سان باولو وتصفيقاتهم، وأحالت الألعاب النارية سماءها مشهداً مستعاراً من بركان بومبي. اتخذ لحن الأغنية ضربات قلب تملأه الغبطة، عبر أهالي نابولي عن حبهم بالغناء. قال دييغو بعد مسيرة مخيبة في برشلونة: "إنهم يحبونني". وفي الملعب كتب نوتة لم تخيب أحداً في مدينة الجنوب الإيطالي.

منذ تلك اللحظة، أصبح مارادونا مسيح كرة القدم بالنسبة لكل مواطن نابوليتاني؛ وهو ما تصفه أغنية تنبؤية ظهرت في صيف عام 1984: "مارادونا أفضل من بيليه" بصوت إميليو كامباسي. حتى ذلك الوقت، لم يكن العالم عرف أمجاد مارادونا، فقط نظروا نحوه كموهبة عظيمة.

جسدت تلك الأغنية التي أصبحت شعاراً أطلقته مدينة نابولي، فألاً لانتقام اجتماعي ورياضي على حد سواء. كانت ترنيمة من إنجيل آخر يقدس كرة القدم. وفي الأغنية رجاء لمارادونا أن يمسح العار عن المدينة، فهو الأخ والأب والأم. كل ذلك قبل أن يسجل أول أهدافه مع النادي، بل أكثر من ذلك، قبل توقيعه على ارتداء قميص نابولي السماوي.

بعيدا عن الملاعب
التحديثات الحية

غطست نابولي في حلم ظل مستحيلاً، بعد عقود من التنمر الاجتماعي التي عانى منها مواطنو المدينة الفقيرة، أصبح لديهم مارادونا. كان مشجعو أندية الشمال الغنية يصفونهم بـ "مجارير إيطاليا"، أو يعلقون لافتات: "هل استحممتم اليوم؟". وبالنسبة لدييغو، الذي نشأ في قاع بوينس آيرس، لا يوجد تحدّ أفضل من ذلك. ارتدى روح الثائر والمُخلص، فتوهّجه كان مبنياً على العاطفة والحب، وكذلك العدوانية. وجاءت الأغنية على إيقاع مارش، هو مزيج من السعادة والأمل: "مارادونا نحن بين يديك". نفدت 35 ألف نسخة رسمية من الأغنية، لكن مليوني نسخة مقرصنة تم بيعها.

تتغنى المدن بأبطالها على طريقة نابولي أيضاً. هناك أصبح مارادونا نابوليون الفقراء، سيركض وراء الكرة كأسعد طفل في العالم، ليمارس فتوحات رمزية نحو الشمال الغني. ولم يعرف الفتى الذهبي أن واترلو أخرى بانتظاره. كان قوياً جداً بحيث لم يتصور أن فتوته عرضة للضعف.

لا نطلب من أغنية كرة قدم أن تمنحنا موسيقى جميلة. إنها على الأرجح مجاراة لهتاف الجمهور، بما يمكن أن يصبح نشيداً حماسياً. انتظر العالم حتى مونديال 1986، ليقرر أن مارادونا أفضل من بيليه، لكن نابولي سبقته. في مسيرته مع نابولي أكد "القصة التي يعرفها كل شخص، مارادونا أفضل من بيليه". تلك كلمات أغنية أصدرتها العام الفائت فرقة البوب الإيطالية "الصحفيون". لم تكن تتحدث عن مارادونا، لكنها استخدمت الشعار الذي أصبح بمثابة عبارة حتمية.
كانت ميلانو وتورينو تقودان اقتصاد إيطاليا وكرتها، تفخر روما بالكوليسيوم، وكنيسة القديس بطرس، أما نابولي فلديها رمزها الأبدي؛ مارادونا.

اتخذت أغنية فاوستو سيغليانو "ديجيتو تانغو" منحى مختلفاً، كون أن موضوعها مارادونا، عبر توظيفها خطاً لحنياً ناعماً على إيقاع التانغو. وربما وضعها في تصور لأغنية ميسترال على خلفية تانغو، وصوت أوكورديون مستبدلاً القيثارة، وغناء يحيلنا إلى أغنية حب خالدة وإن كانت عن مارادونا، تصف أعاجيبه في الملعب: "الأب الأبدي يراوغ، وفي الجنة ذهب ليسجل". الأرجح أن الأغنية صدرت عام 1987، في الوقت الذي عاشت فيه نابولي أجمل أعوامها بفوز ناديها ببطولة أول دوري سكوديتو.

مع هذا، لا توجد أغنية تضاهي روعة مارادونا على العشب. رقصته الخالدة مداعباً كرة القدم ومخادعاً خصومه ليركض خلف حلمه وسعادته. قدمه اليسرى وكل الأجزاء المسموحة من جسده، حتى ذلك الجزء المحرم في لمس الكرة، يصبح "يد الإله". ذلك ما وصف به مارادونا هدفه الأول المثير للجدل على إنكلترا في كأس العالم. يتم استعارة شعرية مارادونا عن طريق المغني الأرجنتيني رودريغو بونو عام 2000 ليغني "يد الإله". وهي عبارة عن تصوير موجز لسيرة مارادونا، منذ ولد في محيط متواضع وفقير. كان أيضاً يركض خلف الكرة لأنها ستنقذ أسرته مما هم فيه، ستساعده في شراء منزل لهم.


لعلّ مباراة إنكلترا من أكثر اللحظات الكروية مثيرة للجدل في مسيرة مارادونا، إذ برزت عبقريته على مستويين؛ خياله الشعري في الهدف المُخادع، ثم مهارته الإعجازية بعد أن راوغ نصف لاعبي إنكلترا راكضاً مسافة تزيد عن منتصف الملعب.

أصبحت "يد الإله" شعاراً آخر عن المجد والبطولة، لكنها في نظر الإنكليز، احتيال مارادوني، مقتنعين بتصوره الرمزي لثأر بعد أربع سنوات من هزيمة بلده الأرجنتين في حرب الفوكلاند. ربما أثار ذلك بصورة ما المخرج البريطاني من أصل هندي، آصف أكاباديا في فيلمه الوثائقي "دييغو مارادونا: المتمرد والبطل والمحتال والإله". تلك الصفة التي لم يحبها مارادونا، إذ إن كرة القدم بالنسبة له لم تكن أقل من حرب، والحرب خدعة، والجميع سيفعل مثله من أجل الفوز. وعلى عكسه، افتقر الجميع لخياله وشعريته.

تذهب الأغاني إلى المجال الشعري في حياة مارادونا، المثير والملتبس. وفي أغنية الإسباني مانو شاو "الحياة كرة"، تعلن تقبل عشاق اللاعب الأسطوري لما كان عليه، فالجميع أحبه كما هو: "لو كنت مارادونا سأعيش مثله". تظهر الأغنية بصوت شاو في فيلم المخرج الصربي أمير كوستاريكا الذي وثق فيه حياة مارادونا، وبنى عليه صورة تمرده. أغنية على إيقاع الفلامنكو، ضربات الغيتار تعلنه إلهاً لاتينياً، في حياة تمضي ككرة يبقى منها مارادونا الثائر، ليعلن شاو أنه لو كان مارادونا سيصرخ على الفيفا بأنهم اللص العظيم.

هناك قصة تانغو من نوع آخر كتب مارادونا نوتتها على قدمه السحرية، حكاية غيرت مجرى كرة القدم وإلى الأبد. لكن الأغاني عنه لم تقتصر على إيقاع التانغو، هناك الفلامنكو والمارش والريغي، وجميعها تصورات موسيقية جاءت من الهامش لتصبح في القمة. حتى إيقاع السامبا تناوله كأسطورة مُلهمة، في أغنية برازيلية لمانو مانو اسمها "مارادونا". تقول: "عندما يدخل الملعب في ذلك القميص، يصطحب معه روحه وقلبه" ذلك القميص الذي ارتداه مارادونا وكان خصماً للبرازيل، أصبح ملهماً لخصومه في شغف اللعبة.

وعلى إيقاع السالسا، سنجد أغنية مكسيكية في مسلسل أنتجته شبكة نتفليكس بعنوان "مارادونا في المكسيك". فحياته كانت منغمسة في الرقص، واصطحبها معه في آخر حياته حين ذهب إلى مدينة كوليكيان لتدريب نادي دورادوس المكسيكي والمغمور في الدرجة الثانية.

في واحدة من المشاهد المحببة، يظهر مارادونا في إحماء مع ناديه نابولي قبل لقاء بايرن ميونيخ على وقع أغنية "الحياة هي الحياة". داعب الكرة في هيئة رقصة، وكانت أيضاً اللعبة بمثابة حرب. هكذا، وضعت ليكيب الفرنسية خبر رحيله على غلافها بعنوان "مات الإله". لم يفرح مثله أحد في الملعب أو يبكي مثله. لم يكن مجد كرة القدم ليكفيه؛ شيء عميق في صدره؛ الشعور بأنه الرجل الأكثر وحدة في العالم. هرب إلى المجد والأضواء والفضائح، ومنحنا سحر كرة القدم. كان مارادونا الاستثنائي يحاول أيضاً أن ينتزع شيئاً لأجل نفسه.

المساهمون