صعدت أغنية Lady Friend نهاية ستينيات القرن الماضي بفريق "ذا بيردز" (The Byrds) الأميركي إلى مرتبة عالية من الشهرة والنجاح. وذلك في زمن موسيقي تنافسيّ قاسٍ. وقتئذ، نُعت على سبيل السخرية كل من دار في فلك فريق "ذا بيتلز" (The Beatles) الأسطوري بـ Beefeaters، أي حرّاس برج لندن ذوي القبعات المزركشة السوداء والأزياء الحمراء المذهّبة؛ فأن يستلهم فريقٌ أسلوب فريقٍ موسيقيّ جايله، غيّر من مسار الموسيقى الجماهيرية على مدار العالم، وغيّر من مفهوم النجومية، كما وخلق لنفسه هوية فنية ساطعة بأسلوبٍ موسيقي جلّي يمكن تمييزه بصورة آنية، يعني أن يُغامر بأن يؤول إلى لا شيء، سوى نسخةً هزيلة عن "ذا بيتلز".
إلا أن الأغنية تمكنت في الأخير من تجنيب فريق "ذا بيردز" هذا المصير، وإن على الأقل خارج بريطانيا، موطن "ذا بيتلز". إذ حظيت Lady Friend بالترتيب 82 من بين المئة أغنية الأكثر إثارة، التي تصطفيها مجلة بيلبورد (Billboard) الأميركية ذات المرجعية العالمية في الصناعة الموسيقية، اتّكاءً على معايير فنية تتعلق بكل من الجودة والكمون التعبيري، وتجارية تتعلق بسعة الانتشار وارتفاع أرقام المبيعات.
الفضل هنا يعود لموهبة ديفيد كروسبي (1941 - 2023)، كاتب الأغنية، المُغنّي والملحّن وعازف الغيتار والعضو المؤسس للفريق، الذي رحل في الثامن عشر من الحالي، عن 81 عاماً. على الرغم من التشابه الأسلوبي الواضح مع "ذا بيتلز"، لجهة التوزيع الغنائي على شكل جوقة متعددة الأصوات، ومن ثم التوزيع الآلي، من خلال دمج آلتي الغيتار التقليدية بالكهربائية، وبالتالي، خلق سطوع لوني حاد ومرتفع، يختلف عن اللون المعهود لغيتار الروك آند رول الكهربائي، ذي الصوت الهادر والمنخفض، مع ذلك تبقى Lady Friend نموذجاً لمُنتج فنّي، يستلهم السائد ويقتبس عنه من دون حرج، ومن دون أن يعدم أسباب الفرادة والإبداع.
مع تألق اسم كروسبي في الستينيات، بزغ ضوء حقبة فنية زاخرة من بين قمم المرتفعات المحيطة بمدينة لوس أنجليس في ولاية كاليفورنيا الأميركية. المناخ المعتدل للساحل الغربي في الولايات المتحدة، والشمس المشرقة معظم أيام السنة، والحياة الرعوية في الغابات والأحراش، مهدت لظهور حركة الهيبيز التحررية، وحتّمت على الموسيقي الشاب والطموح البحث عن لون صوتي خاص، يعكس ضياء الشمس وزرقة البحر والسماء، والمزاج الاجتماعي العام المشرق والمسترخي، وإن ظلّ متأهّباً سياسياً، في غمرة حراك شبابي متّقد على مستوى الغرب والشرق، بات يستهدف كل ما هو جامد، رجعي وتقليدي.
عنصر آخر أضاف على الشخصية الموسيقية الكاليفورنية، وكان أقطابها ممن اختبروه واستثمروا فيه فنياً، هو العقاقير المبدّلة لحالة الوعي، أو ما يعرف بالمهلوسات النفسية (Psychedelics). أخذ تداول تلك المواد الطبيعية أو المركبات الكيميائية يروج بين مجموعات الهيبيز.
بواسطتها، صار هؤلاء يبلغون مستويات لاواعية تُشبه الوجد الصوفي. قد أثّر ذلك بالموسيقى، كونها أحد أهم وسائط التعبير التي تعبر بالمتلقي حدود الإدراك الدنيوي، فانبثق لون موسيقي مستقل أُطلق عليه "سيكاديليك". هكذا، تُعد الأغنية المنفردة Eight Miles High التي أصدرها فريق "ذا بيردز" بتحريض إبداعي من كروسبي، من أوائل مُخرجاته الإبداعية.
والأغنية استعراضٌ لجميع مقومات لون سايكاديليك كما سيُعرف لاحقاً. مشاربه الموسيقية الرئيسية هي ارتجالات الراغا الهندية الصوفية المؤداة على آلة السيتار، القريبة إلى الغيتار، المحمولة على نبض الطبلة والقائمة على التكرار الحلقي التصاعدي، ثم ارتجالات الجاز، على الأخص الحيوي الصاخب منه الذي راج منتصف الخمسينيات وحتى السبعينيات، والمعروف بالــ B Bop فيه تقوم عدّة طبول الدرامز، ترافقها آلة الكونترباص بتسخين متواتر ومستمر الأداء، لتُهيَّأ الأجواء أمام عازفي الآلات المنفردة، فيرتجلون بسرعة وطلاقة، وحرية إيقاعية ونغمية.
ألبوم "سايكاديلي" آخر، أصدره كروسبي بعيداً عن الفرقة سنة 1973، بعنوان If I Only Could Remember My Name، أتى إثر مقتل صديقته في حادث سير. يعكس الألبوم أجواء الحزن، ويحاول استدعاء العزاء. فيه يمتزج روك السايكاديليك بروح الموسيقى الأميركية الشعبية (Country). مزيجٌ أخذ يُحدد ملامح مسيرة الفنان القادمة بصفته الفردية التي تجلّت منذ أول تعاون مع كل من الموسيقيين غراهام ناش وستيفن ستيلز ضمن ما بات يُعرف بفريق "كروسبي وستيلز وناش".
اشتهر الثلاثي بلقب "الخارق"، إذ اجتمعت فيه ثلاث قامات، وَحّدت من جهودها وتشاركت في موارد إبداعها. لم يمض على تأسيس الفريق سوى إصدار ألبومين حتى فاز بجائزة غرامي عن فئة "أفضل فنان جديد". أمّن لهما ثانيهما المعنون Déjà Vu دخول قاعة الشهرة الخاصة بموسيقى الروك أند رول.
من خلال أغانٍ خالدة، كـ Wooden Ships، طرح الفريق في السوق الموسيقية خلطة سحرية جمعت بين الكفاءة، لجهة اختيار التوافقات النغمية، سواءً في العزف أو في الغناء كجوقة، والحساسية الروحية العالية التي قرّبت الروائع التي أبدعوها من وجدان الناس.
يُجمع النقاد على أن مُحضِّر تلك الخلطة هو ديفيد كروسبي الذي ألمّ بكيفية تسخير المعرفة النظرية والمهارة العملية في التوزيع والأداء في خدمة هدف وحيد، هو التأثير في المستمع. هو الذي اشتُهر عنه اقتباس قال فيه: "أعتقد بأن الموسيقى بمثابة قوة رافعة، وأن الحب أيضاً بمثابة قوة رافعة من أجل السمو بالوضع الإنساني". على الرغم من شخصيته المركبة صعبة المراس، ومشكلته المزمنة مع الإدمان على المخدرات، فإنه آثر أن يتابع العمل، ومن خلاله، التأثير في المستمع.
أمثال كروسبي يتحدّون ذواتهم باستمرار. يسعون إلى الكمال، فلا يُدركونه، كما لو أن الكمال يبقى بالنسبة إليهم سراباً. ما يواسيهم في سعيهم غير المختوم تلك اللذة الداخلية الناجمة عن تفجّر الطاقة الإبداعية في دواخلهم. هو الذي قد قال، في حديث معه إلى مجلة رولينغ ستون الأميركية، تعليقاً على آخرِ ألبوم له، عنونه بـ Croz وصدر سنة 2014: "أردت أن أتحدّى ذاتي. معظم الفنانين من أبناء جيلي، ممن تابع المسيرة الفنية مع تقدم العمر، قد أنتجوا جديداً يعيد إنتاج قديمهم، بغية الاستثمار الآمن في ما حظي ذات مرة بمقدار من الشعبية. أما أنا فأردت أن أنتج ألبوماً من أجل نفسي".