بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر) عقوداً من حياته مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفن. تنشر "العربي الجديد" كلّ يوم اثنين مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين والصحافيين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءات مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس، وغيرها من العواصم
في 27 يونيو/ حزيران 1927، ولد في بلدة جون (قضاء الشوف، لبنان) نصر الدين مصطفى شمس الدين الذي سيصبح المطرب المشهور. وهي البلدة التي ينتمي إليها نجم الكوميديا حسن علاء الدين (شوشو) والممثلان ميشال نبعة وغسان إسطفان، والإعلامية نجوى قاسم والصحافي رفلة خرياطي. هي البلدة التي غنّى لها "جون جون، بلدي جون، بلد الزيت والزيتون". وكان يملك فيها بستانا يطرح مختلف الثمار وأبرزها الزيتون، وفي كل موسم يجني ما يكفي مؤونة البيت فضلا عن الزيت جميل اللون وشهي المذاق. والفائض الكثير يُطرح للبيع. مرّة أهدى إليّ زجاجة تشمّمها وقال وهو يعطنيها "شمّ وذوق". وأشهد أنه كان زيتاً زكيّاً.
بدأ بالعمل مدرسا للغة العربية. سافر إلى مصر ليعمل مع شركة "نحاس فيلم" لكن يبدو أن العقد لم ينفّذ، فدرس فترة في معهد الموسيقى، وتابعها في بلجيكا. بعد عودته إلى بيروت قرأ صدفة صيف 1952 إعلاناً من "إذاعة الشرق الأدنى" تطلب أصواتاً جديدة. تقدّم وبطبيعة الحال نجح وتمّ قبوله. كان الهاوي يجيد الغناء بصوته الجميل، فصار محترفاً، واستقبلته الإذاعة اللبنانية بترحاب.
كانت أول أغنية أُنتِجَت له "بحلفك يا طير" من ألحان فيلمون وهبي، رفيق العمر وملحّن الكثير من أغاني نصري شمس الدين، منها "ع العالي الدار" و"لبنان"، وهذه من كلمات الممثل أديب حداد (أبو ملحم). وكان رفيق جولات الصيد، وحدث ذات مرة أن ترافقا في موقع قريب من جون، نواحي دير المخلص الشهير بمبانيه التراثية. أطلق نصري شمس الدين أول رصاصة فأخطأ الطير. وفي الثانية لم يُوَفّق أيضاً، برغم أنه صياد ماهر. وقبل أن يطلق الثالثة سأله فيلمون ممازحاً "تقدر تصيب الدير؟" ضحك نصري وأجابه مغنّيًا "ولاه! أنا شيخ الصيادي".
ارتبط اسم نصري شمس الدين أكثر ما ارتبط بالمسرح الغنائي خصوصا مع الأخوين رحباني. في البدايات، شارك في اسكتشات تمثيلية – غنائية قُدّمت في الإذاعة. كان يؤدّي فيها دوراً باسمه (نصري) مع فيلمون وهبي (سبع) وعاصي الرحباني (أبو فارس) ومنصور (مخول). وفي 1957، السنة الأولى من عمر مهرجانات بعلبك، خُصّصت ليلتان للغناء بعنوان "الفن الشعبي اللبناني" بقصد تشجيع الاهتمام بالفولكلور والعمل على تطويره. كانت الألحان من تأليف الأخوين رحباني، وزكي ناصيف، وتوفيق الباشا، وفيلمون وهبي. في هذا المهرجان، غنّت فيروز "لبنان يا أخضر حلو" وغنّى نصري شمس الدين لوحة "الحصاد" وهي مشهد تمثيلي مع دبكة "ع اليادي" و"الهوّارة". وفي المهرجان الثاني (1959)، كان فريق التلحين هو ذاته وانضم إليه وديع الصافي ومحمد محسن. في هذا المهرجان، غنّى نصري "وحياتك يا درب العين" من ألحان زكي ناصيف الذي لحّن أيضا "طلوا حبابنا" و"رمشة عينك" وقد غناهما وديع الصافي.
في المهرجان الثالث (1960)، تقاسم نصري شمس الدين البطولة مع صباح ووديع الصافي في "موسم العز". واعتباراً من هذا المهرجان، سيتولّى الأخوان رحباني وحدهما مهمة التأليف والتلحين، في كل مشاركة لهما، مع المحافظة على تقليد ضيوف الشرف من الملحنين، مثل فيلمون وهبي ولاحقاً إلياس الرحباني. ولمرّة ثانية، ستكون صباح المطربة الأولى. أما المسرحيات الغنائية الأخرى جميعا، فكانت من بطولة فيروز وإلى جانبها نصري شمس الدين، دائماً. في "قصيدة حب" (1973)، انضم إليهما وديع الصافي. كما سيتولّى نصري شمس الدين دور المطرب الأول في ما قدّمه الأخوان رحباني في مهرجانات بعلبك، ومعرض دمشق الدولي، ومهرجانات الأرز، ومسرح البيكاديللي في بيروت، أو كازينو لبنان، أو في الأردن لدى عرض "بترا" (1977)، وكانت آخر مرّة يشترك فيها الثلاثي معاً: فيروز، الأخوان رحباني، نصري شمس الدين. وبعد التباعد بين فيروز والأخوين رحباني، تولّى بطولة مسرحية "الشخص" لدى إعادتها سنة 1980، وفيها لعبت رونزا دور فيروز. وكانت هذه آخر عمل مشترك مع الأخوين رحباني.
كان حضور نصري شمس الدين في هذه المسرحيات الغنائية بهيجاً، ومطرباً، وظريفاً في أدواره التي لا تخلو من فكاهة. وهو لعب مختلف الأدوار، مثل: الملك (هالة والملك)، والأمير (فخر الدين)، والمختار (موسم العز، وبياع الخواتم، وميس الريم)، والوزير (ريبال في بترا)، ورئيس البلدية (المحطة)، وصاحب الدكان القريب من الحدود والمولع بالصيد (يعيش يعيش)، والإقطاعي (دواليب الهوا)، وماسح الأحذية (لولو). وفيها، وفي غيرها، أنشد مختلف الألوان الغنائية. من الفولكلور اللبناني بكل فروعه، الموال والميجانا والعتابا والمعنّى، إلى الأغاني العاطفية إلى أغاني الدبكات الإيقاعية، مرورا بالعنتريات الفكاهية ومنها الأغاني الشعبية (بويا بويا، مع جورجيت صايغ في "لولو").
أنشد الأغاني الفردية، والثنائيات (الدويتو). وما أكثر الثنائيات التي غنّاها مع فيروز، كمثل: "يا جدي يا بو ديب" (يعيش يعيش)، و"ريبال شو الأخبار؟" (بترا)، و"يا خالي إجا راجح" (بياع الخواتم). كما شارك في ثنائيات مع وديع الصافي "قالوا لي فيه قوّالي"، ومع صباح "لمين أشكي" و"من شُوف الوِلْف لا تحرمونا". ومن ألحان الأخوين رحباني أيضا غنّى مع نجاح سلام "شبّاك الهوى". ومعها ومع محمد سلمان "انقر يا دفّ" وهذه من ألحان عفيف رضوان.
في كل ما غنّى، كان صوت الجبل اللبناني. وقد وصف الشاعر والكاتب جورج جرداق صوته بكلمات رقيقة: "هو رائحة الزعتر والطيّون وأوراق الزيتون وظلال الزيزفون، ونبرة الكرامة الجبلية والمروءة القروية، والمحبة الصافية ونخوة شيخ القبيلة، وشهامة الأرض الطيبة التي لا تنزل إلى المدينة ولا تقدر المدينة أن تصعد إليها".
وفي فترات استراحة الأخوين رحباني، شارك نصري شمس الدين في مهرجانات مختلفة، منها مهرجانات بيت الدين، وكانت تساهم فيها فرقة جون للفنون الشعبية، وهو من مؤسسيها، مع المخرج ريمون حداد (ابن جون أيضاً). وفيها كان بطل مسرحيات غنائية عدة ومنها "جوار الغيم" و"أيام صيف". وتولّى بطولة مهرجان جبيل مع صباح في مسرحية "الوهم"، وفيها غنّى "نحن الهوا وانتو الشجر"، وغنّت صباح "درجي دوسه دوبارة"، والأغنيتان من كلمات موريس عواد وألحان وليد غلمية.
ونظراً لطول فترة التعاون مع الأخوين رحباني، فمن الطبيعي أن يكون السواد الأعظم من أغانيه من ألحانهما. والكثير من أغنياته لحنها زكي ناصيف وفيلمون وهبي. غير أنه تعاون أيضاً مع آخرين: بلحن الياس الرحباني غنّى "يا مارق ع الطواحين"، وبلحن سهيل عرفة "قلبي العطشان". ومن ألحان عازف الناي جوزيف أيوب غنّى "احكي لي عن جدّي الختيار". زياد الرحباني أعطاه أربعة ألحان، منها "سافر يا حمام"، و"الله معك يا بني" وهذه مهداة إلى ابن نصري شمس الدين البكر مصطفى. ولأخت البكر التوأم ألماظة غنّى لها مرنّماً "بعرسك جيت غنّي لك قصيدة". وأنشد أغنيات كثيرة من تلحينه، ومنها: "بعدو هواكن" و"يا ليلى احكي لي". وبعد ختام التعاون مع الأخوين رحباني، سجّل ألبوم "الطربوش" وأغانيه من تلحين ملحم بركات ومنها "شفتك مرّة".
وبعد هذا المشوار الطويل، ظلّ السؤال الهاجس يتردد: هل استفاد نصري شمس الدين من تعاونه مع الأخوين رحباني؟ أم أنّ هذا التعاون جمّده في إطار، فلم يخرج منه إلى فضاء الشهرة الأوسع؟ يصعب إعطاء إجابة دقيقة عن مثل هذا السؤال. وفي رأيي أن لهذا التعاون وجهين، أحدهما سلبي، والآخر إيجابي حتماً. لست أشكّ في أن وجود نصري شمس الدين في قلب الحركة الفنيّة الرحبانية أفاده، في بداياته وحتى الختام. لقد وقف إلى جوار فيروز، الفنانة الكبيرة القديرة المحبوبة. جمهورها العريض عرفه، واكتشف موهبته ومقدرته على الغناء الرائع بصوته الجميل. يضاف إلى ذلك أن أدواره كانت مميّزة، ينتبه إليها الجمهور جيدا، كما أغانيه التي عبرت بيسر إلى مسامع الناس وحظيت بالقبول والإعجاب. فضلا عن كونه النجم الرجالي الأول في العروض كافة. طبعا، بعد فيروز، النجمة الكبيرة، بطلة المسرح الرحباني بامتياز. سواء أكان نصري شمس الدين أم غيره، فلم يكن متوقعا أن يكون حضوره أهمّ من حضور فيروز. أما الجانب السلبي، فهو واضح وموجود طيّ السؤال المطروح. نعم، وجوده في الإطار الفيروزي لم يسمح له بالانطلاق إلى فضاء النجومية الأرحب.
لم يعمل كثيراً في الأفلام السينمائية. في منتصف الستينيات، كانت له مساهمات في أفلام من دون أن يصبح نجماً. مثّل في أفلام فيروز الثلاثة: "بياع الخواتم"، و"سفر برلك"، و"بنت الحارس". وفي فيلم "لبنان في الليل" مع صباح ونجاح سلام وسميرة توفيق، من إخراج محمد سلمان. كما في فيلم "ليالي الشرق" مع وديع الصافي وصباح وفهد بلان، من إخراج الياس متى، عن فكرة للأخوين رحباني.
وقد ربطتني به علاقة جيدة، بدأت صيف سنة 1967، بعد حضوري مسرحية "هالة والملك" في مهرجان الأرز. تعارفنا بعد العرض، هو ومعظم نجوم المسرحية وأنا. ثم التقينا مرّات عدة في لبنان، وفي خارج لبنان. كنت بعد أشهر من اندلاع الحرب سنة 1975، قد سافرت إلى الكويت وإلى قطر، ثم استقر بي المقام في دمشق، بفندق "أوريان بالاس"، وفيه وجدت فيلمون وهبي وملحم بركات وجورجيت صايغ، ثم جاءت إليه فيروز والأخوان رحباني وبقية الفرقة لتقديم عروض منوعات في معرض دمشق الدولي.
وتشاء الصدف أن تكون إقامتنا، نصري شمس الدين وأنا في الكويت، في الفندق نفسه، فندق كارلتون. وهو كان يزور الكويت كثيرا، يقيم الحفلات الغنائية ويسجّل أغنيات لحساب إذاعة الكويت. وقد اختار الإقامة في ذلك الفندق لأن موظف الاستقبال، خليل نصار، من بلدته جون. ثم صار يقيم عند أخيه عز الدين الذي شغل منصباً رفيعاً في صندوق التنمية الكويتي. وكانت لنا مسامرات مع الأخوين شمس الدين، بحضور طريف علاء الدين، شقيق شوشو، وكان مقيماً في الكويت أيضاً.
ثم تكررت اللقاءات في دمشق التي عدتُ إليها أواخر السبعينيات. وذات ليلة، كان رائق المزاج، فطرحت عليه السؤال عمّا جنى من تعاونه مع الرحابنة. لم يكن يحب هذا السؤال ويبدو أنه سمعه كثيراً. صمت لحظات ثم قال: "في كل الأحوال كان التعاون برضا تام مني. أنا أحب العمل في المسرحيات، مغنّياً وممثلاً. هل الأعمال التي قدّمتها معهم مبتذلة أم محترمة؟ أنا سعيد بما أنجزته".
ظل على علاقة صداقة مع فيروز ومع الأخوين رحباني، بعد الانفصال، إلى وفاته في دمشق في 18 آذار/ مارس 1983 عن عمر ناهز السادسة والخمسين. كان يغني في "نادي الشرق" وأصابته جلطة في الدماغ. رثاه عاصي الرحباني قائلا: "يا سيّد الوقفة العظيمة، ما إجا أنبل منك على المسرح (...) نحن جذور الشجرة اللي بالتراب، وأنت غصونها اللي عم تلمع بالشمس". أما فيروز فقالت بحزن: "غيابك بكّاني يا نصري. كان بيلبق تعيش كتير بعد، وكان بيلبق لصوتك يغنّي بعد. نصري يا رفيقي الوفي وفناني الكبير، في شي زاد بفنّي زاد لأنك جيت، وفي شي نقص لأنك رحت".