بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر) عقوداً من حياته، مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفنّ. تنشر "العربي الجديد" كل يوم اثنين مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين والصحافيين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءات مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس، وغيرها من العواصم
يردد الناس الأغاني التي كلماتها من قصائده من دون أن يعرفوا أنه ناظمها. لا تولي العامة اهتماما إلا بالنجوم التي تشاهدها وتسمعها. عشر قصائد من شعر كامل الشناوي صارت أغنيات ذائعة الصيت، تغنّى بها كبار أهل النغم: أم كلثوم أنشدت قصيدة وطنية "على باب مصر" بألحان محمد عبد الوهاب، الذي لحّن وغنّى "الخطايا" (زعموا حبّي، يا قلب، خطايا) و"أغنية عربية" تحية للوحدة بين مصر وسورية سنة 1958، و"نشيد الحرية" (كنت في صمتك مرغم). كما غنّى عبد الحليم حافظ بلحن عبد الوهاب (أنت قلبي فلا تخف) وبلحن محمد الموجي (حبيبها، لستَ وحدك). أما فريد الأطرش فأنشد بلحنه قصيدة (عدتَ يا يوم مولدي) وقصيدة (لا وعينيك يا حبيبة روحي) وأما محرم فؤاد فغنّى (لستُ أشكو منك). وغنّت نجاة الصغيرة قصيدة (لا تكذبي) بلحن محمد عبد الوهاب.
حول "لا تكذبي" دار لغط كثير، ولاكت الألسنة الشائعات، ونشب خلاف بسببها بين عبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة. الأغنية في الأساس لها، طلبتها لتغنّيها في فيلم "الشموع السوداء" عام 1962. وفي إحدى حفلات عبد الحليم حافظ بعد سنة، غناها استجابة لطلب الجمهور، لكنه سجّلها في أسطوانة، الأمر الذي أغضب نجاة الصغيرة. منطقيًّا من الأنسب أن يغنيها مطرب، فالكلمات موجّهة إلى امرأة بلسان رجل. لكن تاريخ الغناء العربي لم يتقيّد بهذا المنطق. أما الشائعة الرائجة فهي أن كامل الشناوي نظم القصيدة بناء على تجربة حقيقية مع سيدة معروفة كانت مرتبطة بالشاعر بقصة حب وخانته. وجرى تداول أسماء ورَوَت أقلام معروفة قصصا ملتهبة. كل ذلك من دون سند قاطع. وحفلت المرويات بتناقضات التفاصيل من حكاية إلى أخرى، الأمر الذي يكفي لعدم أخذها على محمل الجدّ. فضلا عن أن ظروف كتابة القصيدة لا تقلل من قيمتها الأدبية ولا تضيف إليها شيئا.
برغم أن كبار نجوم الغناء قد أنشدوا قصائده، فهو لم يكن يكتبها بناء على تكليف. كتبها قبل مشروع الغناء. كامل الشناوي بدأ الكتابة شاعرا، ينظم القصائد العمودية. وقد وقعتُ على قصيدته في رثاء أمير الشعراء أحمد شوقي منشورة في مجلة "أبولو" المختصة بالشعر سنة 1933. كان في الخامسة والعشرين، وكانت القصيدة من خمسة وخمسين بيتا، وحين نشرها كامل الشناوي في ديوانه، جعلها من 24 بيتا. من أبياتها المحذوفة أحببتُ "إن الخلود كما عرفتكَ هادئًا/ وتقيم حولك ضجةً وصليلا". ولاحقا عندما عرفت الشاعر سألته عن الاختصار فقال: "أيامها كان الشعراء يتفاخرون بطول القصائد على قافية واحدة. وحين نشرتها في الديوان بعد نحو ثلاثين سنة كنا أصبحنا في عصر التكثيف وتجنب الحشو. لو حذفت كل سنة بيتًا لتطابق عدد المحذوف مع عدد السنين"! وفي ديوانه المطبوع يلمس القارئ أن الشاعر كامل الشناوي يحبّ القصائد القصيرة. وعنده قصائد من بيتين فقط، مثل "قد خَلَت منكِ حياتي، وخَلَتْ منّي حياتُكْ/ ما نراه منك أو منّي: رُفاتي ورُفاتُكْ".
قصيدة رثاء أحمد شوقي في "أبولو" كانت بتوقيع مصطفى كامل الشناوي. قال: "ولدتُ في السنة التي توفي فيها الزعيم المصري مصطفى كامل، وكان والدي معجبا به". كان أبوه الشيخ سيّد الشناوي، رئيس المحكمة الشرعية، وكان عمّه الشيخ محمد مأمون الشناوي، شيخ الأزهر. وكامل الشناوي بدأ تعليمه في الأزهر، فحفظ القرآن الكريم واستوعب معاني الآيات ومبانيها، وأتقن اللغة العربية. وإذا كان قد ورث الثقافة الدينية عن أهله، فقد غرس هو الجذور الأدبية في العائلة، فتبعه أخوه مأمون الشناوي، من أشهر شعراء الأغاني بالعامية المصرية، وابن أخيهما الثالث هو الناقد الفني طارق الشناوي.
الشعر إبداعه والصحافة مهنته. نشر مقالات في صحف مختلفة، ثم احترف الصحافة من مطلع ثلاثينيات القرن العشرين في مجلة "روز اليوسف". انضم إلى مجموعة شباب مثله، أصبحوا لاحقا نجوم الصحافة: مصطفى أمين وجلال الدين الحمامصي وكريم ثابت. روت فاطمة اليوسف (اسمها الحقيقي فاطمة، وروز اسمها الفني) في مذكراتها أنه "ظهر في أفق المجلة شابان، أحدهما بدين مرح والثاني نحيل جاد، هما كامل الشناوي ويوسف حلمي. وقد اشتهر عن كامل أنه أكول من الدرجة الأولى، فكنت إذا دعوته إلى الغداء غيّرتُ كل المقادير المعتادة من الطعام، خصوصا صنف الأرز، لكي تسدّ حاجته". وظلّ ضعيف الإرادة تجاه الأطباق الشهيّة حتى عندما أصيب بداء السكري، فأهمل نظام الحمية وأوامر الأطباء لصالح صينية البطاطس باللحمة!
أثبت كفاءته المهنية، فأصبحت الناشرة تعتمد عليه وتستثمر لفتاته الذكية. كانت فاطمة اليوسف عضوة في حزب "الوفد" من دون أن تكون مجلتها ناطقة باسمه. راعت أصول المهنة في موجبات الثناء والنقد. لكن مصطفى النحاس، زعيم الحزب، تذمّر من مقالات النقد، فأصدر بيانًا يقول "إن هذه الجريدة لا تمثّل الوفد في شيء ولا صلة لها به". فاقتبس كامل الشناوي كلامًا لسعد زغلول، مؤسس "الوفد" وزعيمه التاريخي، نشرته الجريدة: "الصحافة حرّة، تقول في حدود القانون ما تشاء وتنتقد ما تريد، وليس من الرأي أن نسألها لماذا تنتقدنا، بل الواجب أن نسأل أنفسنا لِمَ نفعل ما تنتقدنا عليه؟".
كان محمد التابعي رئيس تحرير "روز اليوسف" يختلف مع الناشرة بسبب تباين الآراء حول دور الصحافة، فاستقال سنة 1934 واستعد لنشر مجلة "آخر ساعة"، وتبعه الشباب مصطفى أمين وجلال الحمامصي وسعيد عبده، بيد أن كامل الشناوي فضّل البقاء في المجلة. وفي لقاء معه، ذكر لي أنه كان سعيدا "وقد علمتُ من روز اليوسف أنها ستصدر جريدة يومية، وأن الأديب عباس محمود العقاد سيكون رئيس التحرير، وكنت معجبا به، فآثرت البقاء".
بعد "روز اليوسف"، مارس كامل الشناوي الصحافة في مؤسسات مختلفة. سنة 1940، عمل في جريدة "الأهرام" محررا للشؤون الأدبية. وفي 1945، انتقل إلى جريدة "أخبار اليوم" الأسبوعية، ثم عاد إلى قواعده في "الأهرام". وفي سنة 1952، أصبح رئيس تحرير جريدة "الأخبار" اليومية، ومنها انتقل إلى جريدة "الجمهورية" سنة 1955 رئيسا للتحرير أيضا. وبعد تأميم الصحافة، استقر في جريدة "الأخبار" حتى وفاته.
لكي تكتمل الصورة ثلاثية الأبعاد، نضيف إلى الشاعر والصحافي شخصية كامل الشناوي الإنسان الساخر. ذكرت فاطمة اليوسف أن أجواء العمل في المجلة آنذاك كانت مرحة، صاخبة، وأن كامل الشناوي كان محور هذا المرح "له كل يوم قصة أو تشنيعة أو نادرة تنشر الضحكات على الشفاه، وتمحو كل متاعب النهار. وكانت براعته الغريبة في تقليد الأصوات والنبرات تتيح له القيام بأكبر عدد من المقالب". وذكرت أن الأستاذ العقاد كتب مقالة ضد وزير المعارف وسلّمها إلى توفيق صليب، سكرتير التحرير، وأوصاه ألاّ ينشرها إلا بعدما يتلقى مكالمة تلفونية منه. بعد ساعة اتصل الشناوي بتوفيق من مكتب مجاور وقلّد صوت العقاد وأوصاه أن ينشر المقالة. ثم مرّ بمكتبه وأخبره الحقيقة. وحدث أن عباس العقاد اتصل فعلا بسكرتير التحرير وطلب منه ألا ينشر المقالة، فظن توفيق صليب أن محدثه هو كامل الشناوي فقال له بغضب "يا أخي ما بلاش دوشة! أنت مش لاقي حاجة تعملها؟ أنا مش فاضي للعب دا". فسمع من الأديب الكبير أعنف عبارات التوبيخ!
شخصيا لمست ظرفه وسرعة خاطره في أول لقاء معه. كان جالسا في شرفة فندق سميراميس (القديم) المطلّة على النيل. دخلت المكان برفقة السيناريست علي الزرقاني. قدّمني له، وبسرعة نقلت إليه إعجابي بكتاباته، ورجوته أن يسمح لي بزيارته في مكتبه، فقال "أهلا وسهلا بك". سألته "أمرُّ غدًا؟" قال بسخرية "عندك خبر عاجل؟" ارتبكت وقلت "لا، عندي بعض الأسئلة الأدبية ". قال "في التأني السلامة!" ثم بدّد دهشتي، وضحك وقال "أهلا بك وقتما تشاء. إذا وجدتني منشغلاً، فانتظر قليلا في الممر".
تريثت بضعة أيام ثم زرته في جريدة "الأخبار". دار الحديث حول الشعر وسألته عن الكلمة التي غيّرها في قصيدة إيليا أبو ماضي "لست أدري" فأجاب: "عبد الوهاب غنّى (ولقد أبصرت أمامي طريقا).. أمامي تكسر الوزن، وهو استبعد الكلمة الأصلية "قُدّامي". وحين تقرر أن يغنيّها عبد الحليم حافظ لم يرغب في أداء "قدّامي" ولا "أمامي" وطلب منّي البديل، فكتبتُ (ولقد أبصرت للدنيا طريقا).. للدنيا لا تكسر الوزن ولا تخالف المعنى". كما أخبرني أنه غيّر الكلمة الأولى في قصيدته التي غنّاها عبد الوهاب (أنت في صمتك مرغم). كانت الأغنية ممنوعة أيام الملك فاروق، وبعد 23 يوليو أفرج عنها الضباط على أساس أن كلّ ممنوع في العهد السابق مسموح في عهدهم. لكنهم أدركوا أن الكلمة الأولى يمكن أن تصيبهم هم أيضا، فطلبوا تغييرها، فجعلتها "كنتَ في صمتك مرغم". أما في قصيدة "عدت يا يوم مولدي" فلقد غيّرتُ الملحن! طلبها فريد الأطرش مني فأخبرته أن عبد الوهاب سبقه في الطلب. لكن القصيدة طالت إقامتها عند عبد الوهاب من دون تلحين، فأفهمته أن فريد الأطرش طلبها، قال اعطها له، ففعلت".
وحدث أن عازفا فقيرا ومريضا قصد كامل الشناوي طلبا للمساعدة فاعتذر، لا لعدم رغبة ولكن لعدم القدرة، ذلك أن الشناوي المسرف كان ينقطع من السيولة في منتصف الشهر ويقترض دائما من مرتب الشهر التالي. لكنه اتفق معه على خطة. كان الشاعر مدعوا لسهرة في بيت فريد الأطرش. في منتصفها جاء العازف وطلب مقابلة الشاعر فرافقوه إلى الصالون. ودنا منه وهمس في أذنه، فصاح الشاعر بصوت عال: "تطلب مني مساعدة وأنت في بيت أمير الكرم؟!"، فاختلى الموسيقار بالعازف ونفحه مساعدة سخية. وكان فريد الأطرش، الكريم فعلا، سيُعِينه حتما، لكن خطة الشاعر عجّلت التنفيذ!
وكان الشناوي يمقت الكسالى وأشباه الجهلة. سأل صحافيا بليدا إذا كان قد التقى بالروائي الروسي دوستويفسكي الذي حلّ في القاهرة ضيفا على رئيس الجمهورية! حثّه على إجراء المقابلة فالروائي يتكلم العربية! لم يدرك الجاهل أن دوستويفسكي توفي قبل نحو قرن، وأمضى اليوم يبحث عنه من فندق إلى آخر، وعاد بخفّي حنَين! ومرة سأله مخرج أن يقترح عليه مغنّيا أو راقصة ليضمهما إلى برنامجه الاستعراضي الجديد، بسرعة قال كامل الشناوي "مافيش غيره. أحمد لطفي السيد"! سأله المخرج "مغنّي أو راقص؟" قال "كلاهما". أنقذَ المخرجَ صديقٌ منعه من الاتصال بالمفكر الكبير، التسعيني آنذاك، مؤسس جامعة القاهرة ورئيس مجمع اللغة العربية سابقا، وحذّره من شر العاقبة لو اتصل به وطلب أغنية أو رقصة!
كان كامل الشناوي يسخر ويضحك ويُضحِك ليخفي حزنا دفينا، بسبب المرض الملازم وعدم التوفيق العاطفي. كتب مرة يقول: "ما هذه الدنيا، ولمن هي؟ إنها ليست للموتى، فلقد ماتوا. وليست للأحياء، فإنهم يموتون". ونظم بيتا في قصيدة قال: إذا متّ فابكوني وقولوا لقد قضى/ شهيد حياةٍ عاثر الحظّ شاكيا".