دفاتر فارس يواكيم: رفيق الصبّان... مسرح في دمشق وسينما في القاهرة

17 يوليو 2023
رفيق الصبان مع صديقه الممثل المصري نور الشريف (أرشيف زيد رفيق الصبان)
+ الخط -

بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر) عقوداً من حياته مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفن. تنشر "العربي الجديد" كلّ يوم اثنين مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين والصحافيين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءات مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس، وغيرها من العواصم.

يوم 17 أغسطس/ آب 2013، توفي الكاتب والمخرج والناقد السوري رفيق الصبان في القاهرة، عن عمر بلغ الثانية والثمانين. كان قد ولد في دمشق في 11 فبراير/ شباط سنة 1931. أمضى عمره مناصفة بين العاصمتين، وفي كلٍّ منهما كانت له إسهامات مهمة في المسرح والسينما.

مطلع سنة 1952 سافر إلى فرنسا لدراسة الحقوق، وكما أخبرني ولده زيد الصبان أنه تذرّع بهذه الدراسة لكي يوافق والده الطبيب أحمد الصبّان على سفره. ومن عشقه للفنون، استغل وجوده في باريس فأمضى، بالتزامن مع دراسة القانون، فترة تدريب في المسرح الشعبي الوطني على يد المخرج الكبير جان فيلار. كذلك، سافر إلى إنكلترا على فترات متفاوتة لدراسة فن المسرح في كامبريدج. وأنهى الدراسة بنيل درجة الدكتوراه في القانون من جامعة السوربون، وهو في الرابعة والعشرين سنة 1955.

عاد إلى دمشق وعمل في وزارة العدل. وبعد وفاة والده سنة 1958 استقال من الوظيفة، واختار حقل الفنون ليزرع فيه ثمراته، ويحتفل بحصادها؛ وكان تأسيس ندوة الفكر والفن الغرسة الأولى. جمعت هذه الحلقة نخبة من محبي المسرح والسينما والأدب والموسيقى والفن التشكيلي، وعُقدت جلسات الحوار في دارة رفيق الصبان الأنيقة. عندما تأسس المسرح القومي في سورية سنة 1960، كان رفيق الصبان من أبرز الذين وضعوا اللبنة الأولى في إنشاء الفرقة القومية التي ستقدم الروائع المسرحية، وكان مخرج باكورة العروض: مسرحية أريستوفانس "براكساجورا أو مجلس النساء".

وفي مجلة "الثقافة" كتب مدحت عكاش يقول: "انقسم رأي المثقفين بعد عرض المسرحية إلى مؤيدين ومعارضين. المؤيدون رأوا أنها الطريق الصحيح، والمعارضون احتجوا بأنها صعبة الفهم لدى الجمهور الكبير". بعدها أخرج رفيق الصبان "الخروج من الجنة" لتوفيق الحكيم، و"العادلون" لألبير كامو. ثم وقع خلاف بينه وبين الإداريين، فانسحب من المسرح القومي وأسس فرقة ندوة الفكر والفن. ضمّت الفرقة المسرحية الجديدة، بقيادة المخرج رفيق الصبان، مجموعة ممن أصبحوا نجوم التمثيل في سورية، بينهم: هاني وأسامة الروماني، ومنى واصف، وسليم كلاس، ويوسف حنا.

افتتحت عروضها سنة 1961 بمسرحية "أنتيغونا" لسوفوكليس، تلتها "الليلة الثانية عشرة" لشكسبير، وكلتاهما نجحت في اجتذاب المشاهدين، وهم مزيج من النخبة والجمهور الذي يشاهد المسرح لأول مرّة، الأمر الذي شجّع رفيق الصبان على مواصلة العمل في اتجاه تقديم روائع المسرح العالمي. وقد نجح في كسب جمهور جديد شاهد "تاجر البندقية" و"ماكبث" و"يوليوس قيصر" لشكسبير، و"الاعترافات الكاذبة" و"لعبة الحب والمصادفة" لماريفو، و"رجل الأقدار" لبرنارد شو، و"السلطان الحائر" لتوفيق الحكيم، "وبنادق الأم أمينة" عن "بنادق الأم كرار" لبرتولد بريشت، ترجمها وأعدها رفيق الصبان.

وعلى خط موازٍ مع تلك النصوص العالمية والعربية الجميلة، ومع كوكبة العناصر التمثيلية الموهوبة، حرص رفيق الصبان على استكمال الحداثة في العروض المسرحية بالاعتماد على فنانين سوريين مبدعين في مجال الموسيقى والرسم، مثل الموسيقي صلح الوادي لتأليف الموسيقى التصويرية الخاصة بالمسرحيات، والفنان التشكيلي لؤي الكيالي لتصميم الديكورات. وقد أطلق المخرج التلفزيوني غسان جبري على هذه الفرقة لقب "وزارة ظل ثقافية".

وفي 1963 انضم رفيق الصبان إلى التلفزيون السوري مديراً للبرامج، فنقل إليه فرقته المسرحية التي أصبحت تعرف باسم فرقة الفنون الدرامية. سجّلت للتلفزيون العروض التي قدمتها فرقة ندوة الفكر والفن ضمن برنامج "شوامخ المسرح العالمي". واشترك الصبان مع فيصل الياسري في إعداد وتقديم برنامج "قوس قزح" بقصد تنمية الذائقة الفنية والمعرفة المسرحية عند جمهور التلفزيون العريض.

وفي أواخر 1965 عاد رفيق الصبان إلى قواعده في المسرح القومي، ومعه أعضاء فرقة الفنون الدرامية، وكانت الفرقة القومية تضمّ أيضاً: هالة شوكت وسليم صبري ولينا باتع وثراء دبسي. وفي المسرح القومي أخرج رفيق الصبان مسرحية "طرطوف" لموليير، و"حكاية حب" لناظم حكمت، و"الزير سالم" لألفريد فرج. وأعاد تقديم "بنادق الأم أمينة". وفي أول مهرجان عربي للمسرح أقيم في دمشق سنة 1969، شارك رفيق الصبان بمسرحيتين من إخراجه. كانت الأولى "مأساة بائع الدبس الفقير" لسعد الله ونوس (من إنتاج نقابة الفنانين)، وكانت الثانية مسرحية "طرطوف" مع فرقة المسرح القومي. وأثنى الروائي المصري بهاء طاهر في مقالة نشرها في القاهرة في مجلة "المسرح" على إخراج رفيق الصبان مسرحية "طرطوف"، لأنه "استطاع أن يفسّر المسرحية تفسيراً ملائماً للعصر، والأهم أنه استطاع أن ينقل هذا التفسير للجمهور".

وفي ذلك المهرجان، وكنت قد شاهدتُ بعض عروضه، كان لقائي الأول مع رفيق الصبان. تلته لقاءات في بيروت في ربيع 1970، وكان يتابع العروض المسرحية فيها، ليكتب مقالة عنوانها "ضجة مسرحية في لبنان" نشرها في مجلة "المسرح" المصرية.

وفي 1970 قرّر رفيق الصبان مغادرة دمشق ليقيم بصفة نهائية في القاهرة. تلقّى تشجيعاً من وزير الثقافة المصري ثروت عكاشة، ومن الأدباء والفنانين. وعندما غادر العاصمة السورية كان قد أفرغ حبه الكبير للمسرح، وبدأ يعبّر عن حبّه للسينما، مؤسساً نادي السينما. وكانت الأوساط الثقافية المصرية، وخصوصاً المسرحية، تعرفه من متابعة أعماله التي أخرجها في دمشق، ومقالاته التي كان ينشرها في مجلتي "الثقافة" و"المعرفة"، وما كان ينشره في المجلات المصرية.

وفي مجلة "الهلال" القاهرية عدد مايو/ أيار 1969، نشر رفيق الصبان ترجمته للمسرحية الفرنسية "باسيفاي" لهنري دو منترلان. وكان قبل ذلك، في دمشق، قد ترجم مسرحيات: "ساحرات سالم" لآرثر ميلر و"الاعترافات الكاذبة" و"بنادق الأم كرار". وبعد ذلك نشر في مجلة "المسرح" المصرية ترجمته لمسرحية "المهندس وإمبراطور آشور" لفرناندو أرابال.

في القاهرة أينع عشقه للسينما. بدأ مسيرته الفنية فيها سنة 1973 كاتباً للسيناريو والحوار لفيلم "زائر الفجر" بالاشتراك مع مخرجه ممدوح شكري، خريج الدفعة الأولى في المعهد العالي للسينما. لم تكن بداية سهلة، فلقد تعرّض الفيلم للمنع بعد أسبوع واحد من عرضه. وهو فيلم فيه نقد مبطّن للأوضاع السياسية التي أدت إلى هزيمة يونيو/ حزيران 1976، وفيه إسقاطات تمسّ رجال المخابرات الذين يصيبون الناس بالرعب ويتقاعسون عن أداء مهمتهم الأساسية. ومن جرّاء المنع أصيبت منتجة الفيلم الممثلة ماجدة الخطيب وشريكها رفيق الصبان بخسائر مالية فادحة. أما المخرج فانتابته حالة من الاكتئاب المزمن انتهت بوفاته عن عمر ناهز الرابعة والثلاثين.

لم يتوقف رفيق الصبان عن التأليف السينمائي، وبلغ مجموع أفلامه في السينما المصرية ما يزيد على ثلاثين فيلماً، آخرها فيلم "الباحثات عن الحرية" وهو إنتاج مصري – فرنسي مشترك، أخرجته إيناس الدغيدي وعُرض سنة 2005. في فيلمه الثاني "الأخوة الأعداء"، اشترك مع نبيهة لطفي، المخرجة المصرية اللبنانية المولد، في اقتباس رواية "الأخوة كارامازوف" لدستويفسكي وكتابة سيناريو الفيلم الذي أخرجه حسام الدين مصطفى.

تعاون مع مخرجين كُثُر، فاشترك مع يوسف شاهين في كتابة فيلم "المهاجر". وكتب سيناريو فيلمي "الأرملة والشيطان" و"اذكريني" (عن رواية يوسف السباعي)، وقد أخرجهما هنري بركات. ومن الأفلام التي كتب لها رفيق الصبان السيناريو، أذكر: "قفص الحريم" (قصة مجيد طوبيا) و"حبيبي دايما" من إخراج حسين كمال، و"ليلة ساخنة" و"الزمار" للمخرج عاطف الطيب. أما "الرغبة" لعلي بدرخان و"قطة على نار" لسمير سيف، فكلاهما عن مسرحية لتينيسي وليامز: الأول عن "عربة ترام اسمها الرغبة" والثاني عن "قطة فوق سطح من الصفيح الساخن".

وكتب رفيق الصبان سيناريو فيلم "قاهر الظلام" الذي يحكي سيرة الأديب طه حسين، وفيلم "البؤساء" المقتبس من رواية فكتور هوغو، و"العاشقة"، والأفلام الثلاثة من إخراج عاطف سالم. وللمخرج التونسي الطيب الوحيشي، كتب سيناريو فيلم "عرس القمر".

لم يكتفِ رفيق الصبان بكتابة سيناريوهات الأفلام، ولم يكن ذلك ليشفي غليله تماماً. لذلك انخرط في جميع الأنشطة السينمائية. كان أستاذ مادتي السيناريو والتذوّق السينمائي في المعهد العالي للسينما في القاهرة، وقد وضع في متناول الطلبة خبرته في الكتابة السينمائية، والمقالات النقدية عن الأفلام الأجنبية والعربية التي شاهدها. كذلك كان من أنشط أعضاء نادي السينما، وندر غيابه عن الندوات الخاصة بالفن السابع. وكان يشارك في برنامج "زووم" المخصص للسينما، وكانت سلمى الشمّاع تقدمه في التلفزيون المصري.

وحين تأسس "مهرجان القاهرة السينمائي" سنة 1976، كان رفيق الصبان من أبرز المتعاونين مع رئيسه كمال الملاخ، خصوصاً لجهة اختيار الأفلام التي ستعرض، بالنظر إلى خبرته العميقة. وبعدما اكتسب المهرجان صفة الدولية سنة 1985 في عهد سعد الدين وهبة، ظل رفيق الصبان المستشار والداعم، هو المواظب على حضور المهرجانات العالمية في برلين والبندقية وخصوصاً مهرجان كانّ.

ومن عادات رفيق الصبان أن يتوقف لمدة أسبوع في باريس قبل التوجه إلى كانّ، ولأسبوع آخر بعد العودة. وإذ كنتُ مقيماً في العاصمة الفرنسية في عقد الثمانينيات، كنا نلتقي كل عام. كان يمشّط صالات باريس حتى لا يفوته فيلم. وقد دلّني على قاعة في نواحي "الشاتليه" تعرض أفلاماً قديمة، وكان يغشاها لمشاهدة فيلم فاته أن يراه في عروضه الأولى. وقد صحبته لمشاهدة بعضها، أذكر منها "كم كان وادينا أخضر" و"سابرينا". وذات مرّة مازحت المدمن حضور عروض الأفلام، قائلاً: "الأسهل أن نسألك، ما هي الأفلام التي لم تشاهدها هذا الموسم!".

وفي 1984 اجتمعنا في باريس: المخرج مأمون البنّي ورفيق الصبان وأنا لكتابة سيناريو وحوار فيلم سينمائي عن فكرة للمخرج. لم ينفّذ الفيلم لخلاف بين المخرج والمنتج، وكان أن حوّل مأمون فكرته لاحقاً إلى مسلسل تلفزيوني بعنوان "نساء بلا أجنحة" وشاركه رفيق الصبان في كتابة السيناريو.

وكان الصبّان قد بدأ كتابة النصوص التلفزيونية المصرية منذ مطلع السبعينيات وحتى 2006. وهو كاتب مسلسل "الدوغري" السوري (عن رواية للكاتب التركي عزيز نيسين) من إخراج هيثم حقي وبطولة دريد لحام، وسيناريو فيلمي "كفرون" و"الآباء الصغار" وقد أخرجهما دريد لحام.

ولم يغب عن مجال إصدار الكتب. ترجم "نظرات في الأدب الأميركي"، وهو عن الرواية خصوصاً عند وليام فوكنر وجون شتاينبك. وترجم "الإسلام والمسرح" للتونسي محمد عزيزة، وإلى هذا البحث المشوّق تضمّن الكتاب نصّاً تراثياً من البيئة الإسلامية القديمة بعنوان "آلام الحسين أو مأساة كربلاء"، وكتاب "في النقد السينمائي" للفرنسي جان-لوي بوري. أما مؤلفاته فمعظمها عن السينما نقداً وتأريخاً، ومنها "مدّ وجزر" و"أضواء على الماضي"، وآخرها "السينما كما رأيتها" وقد صدر عام 2012.

كان رفيق الصبان قد تزوج ليلى الحسيني في دمشق سنة 1967، وهي حفيدة مفتي القدس الشيخ كامل الحسيني، الأخ الأكبر للحاج أمين الحسيني، ولهما ولدان: أحمد الذي توفي حزناً بعد خمسة أشهر من وفاة أبيه، وزيد، السفير في جامعة الدول العربية، والذي يتولّى حالياً إدارة القرن الأفريقي والسودان والبحر الأحمر. وقد عانى رفيق الصبان في سنواته الأخيرة من اعتلال القلب، فرض تدخلاً جراحياً مرتين. وأمضى الأسبوع الأخير من عمره في العناية المركّزة في المستشفى.

المساهمون