بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر) عقوداً من حياته مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفنّ. تنشر "العربي الجديد" كل يوم اثنين مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين والصحافيين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءات مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس، وغيرها من العواصم
في تاريخ الكوميديا المصرية الحديثة ثلاثة أسماء، هي الأعمدة الرئيسية: نجيب الريحاني، وفؤاد المهندس، وعادل إمام. كلّ واحد من هؤلاء كان نجماً في عصره المليء بالنجوم وكان النجم الأكبر في فضاء التمثيل المسرحي الحافل بنجوم مضيئة هي الأخرى. كان نجيب الريحاني، وظلّ، المثل الأعلى عند فؤاد المهندس، وقد خطا خطواته المهنية الأولى في كنفه. وكان عادل إمام، وظل، يعتبر فؤاد المهندس نموذجه الأمثل، وإلى جواره وقف على خشبة المسرح لأول مرة في حياته بصفة ممثل محترف.
قبل أن يدخل ميدان الفنون، كان فؤاد المهندس يتمنى أن يكون ذات يوم ممثلاً على غرار نجيب الريحاني. ومنه سمعت سبب ذلك الإعجاب. قال: "السحر عنده هو الأداء. هو الإلقاء وتعابير الوجه في ردّ الفعل. شاهدته على خشبة المسرح وضحكت كالطفل البريء. ولا أملّ من مشاهدة أفلامه، خصوصا (غزل البنات) و(لعبة الست)، وحوله كوكبة من المبدعين. كنتُ بطل فريق التمثيل في كلية التجارة. ولكي أتقرّب من نجيب الريحاني، طلبت منه أن يُخرج لنا إحدى مسرحياته. رحبّ بتواضع، وأدى المهمة. وكانت فرصة سانحة لأكون إلى جواره، أمثّل بإدارته. أعجبه أدائي، وأعلنت عن رغبتي في العمل في مسرحه. أعطاني الفرصة، أدواراً صغيرة للغاية، لكن فرحتي كانت فوق الوصف، أن أقف على خشبة مسرح ولو للحظات، يصول ويجول فيها الريحاني، وحسن فايق، وعبد الفتاح القصري، وبشارة واكيم، وماري منيب، واستفان روستي. توفي نجيب الريحاني، ووجدت صعوبة في أن أفرض وجودي وسط هؤلاء العمالقة".
بدأ فؤاد المهندس يشق طريقه في الإذاعة المصرية. لعلع صوته في الميكروفون في برنامج كوميدي أسبوعي عنوانه "ساعة لقلبك"، بدأ بثه سنة 1953، وبسرعة لقي نجاحاً كبيراً لدى جمهور المستمعين. كان البرنامج عبارة عن اسكتشات تضمّ شخصيات نمطية على غرار "الكوميديا ديلارتي". كان فؤاد المهندس يؤدي دور "محمود" الذي تنكّد زوجته عيشته (خيرية أحمد). وضم البرنامج مجموعة من المواهب أصبحوا نجوماً كوميدية، أبرزهم عبد المنعم مدبولي، وأمين الهنيدي، ومحمد عوض، ومحمد المصري بشخصية الفشّار "أبو لمعة"، وفؤاد راتب بشخصية اليوناني "الخواجة بيجو". وكان البرنامج من كتابة سمير خفاجي ويوسف عوف. ومن يومها، أصبح عبد المنعم مدبولي وسمير خفاجي رفيقي العمر في حياة فؤاد المهندس، وكثيراً ما تعاون الثلاثة في مسرحيات ذائعة الصيت.
كان يتمنى أن يكون ذات يوم ممثلاً على غرار نجيب الريحاني
في الفترة ذاتها، كان قد وقف أمام الكاميرا في سنة 1952 ممثلاً دورًا صغيرًا في ثلاثة أفلام من إخراج حسن الإمام: "غضب الوالدين" و"زمن العجايب" و"كأس العذاب". وبعد سنتين، كان اسم فؤاد المهندس أصبح معروفاً، فأسند إليه محمود ذو الفقار الدور الرئيسي في فيلم "بنت الجيران" أمام شادية. تقابلت مع فؤاد المهندس أول مرّة في بيروت سنة 1968. كان في زيارة ترافقه زوجته شويكار، شريكة حياته وشريكة مسرحياته وأفلامه. شكّلا معاً أنجح ثنائي في الكوميديا المصرية. في اللقاء، أغدق على أدائها الثناء، وسخت هي في مديحه، وقلتُ إني أؤيد الإطرائين. في ذلك اللقاء الصحافي، سمعت من فؤاد المهندس ما ذكرتُه عن نجيب الريحاني وعن "ساعة لقلبك" وعن بداياته السينمائية. قلتُ له: المفارقة أنك بدأت مشوارك، وأنت الممثل الكوميدي بامتياز، بثلاثة أفلام من إخراج حسن الإمام، أشهر مخرجٍ للمآسي والميلودراما في السينما المصرية. قال: "صحيح بس أنا ما كنتش ميلودراما. وبالمناسبة أخبرك أن حسن الإمام إنسان ظريف للغاية وصاحب نكتة". (فعلا، حين عرفته أدركت ذلك). طرحت السؤال نفسه على شويكار التي أيضاً بدأت بأدوار في أفلام غير كوميدية، أجابت: "صحيح. لكني مبكراً مثلت في كوميديات ومع أستاذ هو فطين عبد الوهاب في فيلم "الزوجة 13"، وذلك قبل عملي مع فؤاد. أول فيلم معه كان "أنا وهو وهي" وكان من إخراج الأستاذ فطين أيضا". ومع المخرج ذاته وبمشاركة شويكار، أدّى فؤاد المهندس دوراً متميّزاً في فيلم "صاحب الجلالة". وكان "أرض النفاق" عن رواية يوسف السباعي الساخرة وإخراج فطين عبد الوهاب آخر فيلم تولّى الثنائي بطولته قبل أن يزورا بيروت آنذاك.
وقف عادل إمام للمرة الأولى على خشبة المسرح مع فؤاد المهندس
في سنة 1963، قررت إدارة التلفزيون المصري خوض تجربة المسرح. أنشأت "مسرح التلفزيون"، تُنتج فيه المسرحيات، وتُعرض على الخشبة، وتُصَوّر للعرض التلفزيوني لاحقاً. ومن بواكير ذلك الإنتاج، مسرحية "السكرتير الفني" من بطولة فؤاد المهندس وشويكار. كلاهما على خشبة المسرح في دوري بطولة لأول مرة، ومعًا لأول مرة أيضاً. فضلا عن ذلك، فالنَصّ نص مسرحية "الجنيه المصري" لنجيب الريحاني وبديع خيري، المقتبسة من "توباز" للفرنسي مارسيل بانيول. وفي النسخة الجديدة، أدّى فؤاد المهندس دور نجيب الريحاني، وهذا بحدّ ذاته متعة تُرضي مزاج المهندس.
في مطلع السبعينيات، التقيت في الكويت الممثل فؤاد راتب، وكان يعمل في التلفزيون الكويتي مسؤولاً في قسم الشؤون المالية. من البديهي أننا أتينا في أحاديثنا على سيرة فؤاد المهندس. لفت الخواجة بيجو نظري إلى أن فؤاد المهندس، برغم عشقه الكبير لنجيب الريحاني، لم يسعَ إطلاقا إلى تقليده، بل رسم لذاته شخصية مستقلّة.
وكانت "أنا وهو وهي" ثاني مسرحية من بطولة الثنائي فؤاد المهندس وشويكار. وفيها وقف عادل أمام على الخشبة لأول مرة، بدور أتقنه ففتح له باب الصعود إلى القمة لاحقاً. كانت هذه المسرحية، التي امتدّ عرضها لموسمين متتاليين، فاتحة سلسلة من أشهر كوميديات المسرح المصري، ومعظمها من اقتباس سمير خفاجي وإخراج عبد المنعم مدبولي. وأثناء عروضها ولدت قصة الحب بين فؤاد المهندس وشويكار، التي كُلّلت بالزواج. عاشا الأيام الذهبية، نجاح في المسرح ونجاح في الحياة العائلية. عشر مسرحيات حطمت الأرقام القياسية في الإقبال. وفي المسرحية التالية "سُكّْ على بناتك" (سنة 1980) كانت شويكار ضيفة شرف، ساهمت بصوتها فقط. وفي الأثناء وقع الطلاق!
بعد 17 عاماً من الزواج الناجح، انفرط العقد العائلي. لم يتكلم أحدهما صراحة عن الأسباب. هذا سرّ خضع لتأويلات الآخرين: قيل غيرة فنية وقيل غيرة عاطفية. لكنهما ظلاّ صديقين على علاقة طيبة، وعملا معاً في مسرحيتين: "روحي اتخطفت" (1989) و"مراتي تقريبا" (1995). ولم يتزوج أحدهما حتى وفاة فؤاد المهندس سنة 2006. وبعدها تزوجت شويكار السيناريست مدحت حسن.
بعد انفصال الثنائي، قامت دلال عبد العزيز ببطولة مسرحية "هالة حبيبتي" أمام فؤاد المهندس، وتولّت شريهان بطولة "عشان خاطر عيونك" التي دام عرضها موسماً كاملاً. شريهان كانت من قبل بطلة مسرحية "سك على بناتك".
بعد لقاء بيروت الأول سنة 1968، التقيت النجم الكبير غير مرة في بيروت، وفي القاهرة بضيافة الصديق سمير خفاجي، الكاتب والمنتج الذي أسس فرقة "الفنانين المتحدين"، وهو الذي أنتج مسرحيات فؤاد المهندس بعد توقف تعاونه مع القطاع العام في "مسرح التلفزيون"؛ وهو كاتب سيناريو وحوار فيلمين من بطولة فؤاد المهندس وشويكار ومشاركة عبد المنعم مدبولي: "المليونير المزيّف" (إخراج حسن الصيفي) و"مراتي مجنونة مجنونة" (إخراج حلمي حليم).
في هذه اللقاءات، دارت الأحاديث حول شؤون الكوميديا وشجونها. أذكر من بينها تطرقي إلى قيام فؤاد المهندس بإخراج بعض المسرحيات التي كان بطلها، مثل "أنا فين وإنت فين" و"حالة حب" (مع شويكار) و"سك على بناتك". قال: "قبل أن أقدم على هذه المهمّة، كنت قد اشتغلت طويلا في المسرح ممثلاً. تعاونت مع مخرجين موهوبين، أوّلهم عبد المنعم مدبولي، وسمير العصفوري وحسن عبد السلام والمخرج المسرحي والسينمائي حسين كمال. استفدت كثيرا من تجاربي معهم. وشجّعني سمير خفاجي على تولّي الإخراج، وهو كان منتج هذه المسرحيات".
وفي حديثه عن ذكرياته مع المخرجين السينمائيين الذين تعاون معهم، ذكر أن فطين عبد الوهاب هو أستاذ الكوميديا في السينما المصرية. تكلّم بامتنان عن علاقته الوديّة والفنيّة مع آل ذو الفقار. "الأخ الأصغر صلاح ذو الفقار كان صديقي من أيام الشباب قبل أن يحترف أحدنا التمثيل. كان ضابط شرطة بنجمة (ملازم). أخوه الأكبر محمود أعطاني أول فرصة لأؤدّي الدور الأول. أخوه الأوسط عز الدين أعطاني أدوارًا متميّزة في أفلام نجحت كثيرا، مثل بين الأطلال، نهر الحب، الشموع السوداء. وذلك انعكس بشكل إيجابي على مشواري الفني". ولم ينسَ الحديث عن حسن الإمام، أول مخرج أسند إليه أدوارا، ثم تعاون معه في أفلام عرفت نجاحا مثل "شفيقة القبطية" ومثل فيلم "بديعة مصابني" الذي صوّر حياة الراقصة الشهيرة في مصر ولبنان. وفي هذا الفيلم، أدّى فؤاد المهندس دور نجيب الريحاني الذي كان زوج الست بديعة.
كان الحديث عن ذلك الفيلم مناسبة للحديث عن نجيب الريحاني، فقلت إنه من المفهوم أن يسعد بتجسيد شخصية عرفها وكان معجبا بها. قال: "طبعا. ولم أحاول تقليده مع أن ذلك كان بوسعي، لأني عرفته عن كثب وعرفت الطريقة التي يتحرك بها ويتكلم بها. ساعدني في تمثيل الدور أنني أجسد شخصية نجيب الريحاني الإنسان لا الفنان. بذلت جهدي لكي أبرز تعابير شخصية هذا الإنسان، وهي مزيج من الضحك والحزن. أضحك الناس، لكنه عرف الحزن أيضا وعانى منه. وأحيانا سخّره ليكون مادة سخرية. طبعا سعدت بأداء الدور لأنني أحب الشخصية، ولأن الفرصة متاحة لي لتمثيل دور يجمع الضحك مع الحزن. والحمد لله نجحنا".
بخلاف الحديث عن التمثيل والكوميديا والأصدقاء، قادتني الصدفة إلى الحديث عن عائلته، فعرفت منه معلومات كنت أجهلها، ويجهلها كثيرون إلى الآن. كنت أعرف أن أباه زكي المهندس، أستاذ الأدب العربي، كان عميدَ كلية "دار العلوم" ونائبَ رئيس مجمع اللغة العربية. وأن شقيقته الكبرى صفية المهندس كانت من الأصوات النسائية الرائدة في الإذاعة المصرية، وأول امرأة تقرأ نشرة الأخبار. وفضلا عن ذلك، قدّمت "برنامج المرأة" الذي حظي بشعبية كبيرة، وهي تسلمت مناصب إدارية آخرها رئيسة الإذاعة من 1975 حتى تقاعدها سنة 1982. وأخبرت فؤاد المهندس أن زوج شقيقته، محمد محمود شعبان، أحد أعمدة الإخراج والإدارة قي الإذاعة، كان قد درّسني في معهد السينما مادة "حرفية الإذاعة". وكان مشهورا بتقديم برامج للأطفال بشخصية "بابا شارو"، وقد طغى هذا اللقب على اسمه الحقيقي. من هذا المدخل، تطرّق إلى سيرة المشاهير الآخرين في عائلته، من أقربائه الأقربين.
الدكاترة الأخوة، أصحاب المؤلفات – المراجع، هم أبناء خالة فؤاد المهندس: عبد العظيم أنيس (عالم الرياضيات والناقد الأدبي والمناضل اليساري العريق) ومحمد أنيس (المؤرخ وأحد رواد دراسات التاريخ الاجتماعي في مصر) وإبراهيم أنيس (الخبير اللغوي، وعميد "دار العلوم" وعضو مجمع اللغة العربية).
أما الفريق أول كمال حسن علي، الذي شغل المناصب التالية: قائد سلاح المدرعات في الجيش المصري، ثم رئيس جهاز المخابرات العامة، فوزير الدفاع، ثم وزير الخارجية، ثم رئيس الحكومة المصرية، فهو ابن عمة فؤاد المهندس. تذكّرتُ عنوان إحدى مسرحياته "إنها حقا عائلة محترمة".