استمع إلى الملخص
- في العالم العربي، وخاصة في سوريا، استخدمت الفنون كأداة للتعبير السياسي والاجتماعي، حيث كانت الدراما التلفزيونية تنتقد النظام رغم ملكيتها لرجالاته، مما يعكس تعقيد العلاقة بين الفنون والسلطة.
- تُظهر مواقف الفنانين السوريين تعقيد المجتمع وتداخل السلطة، حيث ساهمت الفنون في تسويق النظام كحامي المجتمع، مما يعكس استخدامها كأداة للتأثير السياسي والاجتماعي.
يستغرب بعض الناس، بل يستسخفون، هذا الاهتمام الاستثنائي بردات فعل الفنانين السوريين على الحدث المزلزل، المتمثّل بسقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، ومرجعيته في هذا أن الفنون ما وجدت إلا للترفيه. هذا صحيح جزئياً، لكنه يعزل الفعل عن مُنتجِه، ويقصر الفنون على دورها الوظيفي، بأن ترفّه وحسب، وفي هذا تغافل عن أدوار أخرى أكثر أهمية للفنون، ومنها أنها تنتج وعياً وذائقة ضمن مفاعيل ما يمكن وصفه بلاوعي التلقي.
وأنت لا تستطيع إغفال مفاعيل ظهور ممثلة مثل أودري هيبورن (1929 - 1993) في هوليوود مثلاً، ودورها في إنتاج نموذج مضاد للجمال في العالم كله، ونقلها مفهوم الإغواء نفسه من منطقة إلى أخرى، من النسوة الشقراوات الممتئلات إلى نقيضهن، ما تساوق مع ثورة صناعة الأزياء التي غادرت منطقة الفخامة، وتواضعت بالاقتراب من منطقة الطبقات الوسطى، ونسائها العاملات اللاتي يحتجن إلى ملابس أكثر عملية وأناقة لا فخامة، وصولاً إلى إلباس النساء جاكيت الرجال وبناطيله. من فعل ذلك كان هيبورن من دون أن تعلم.
وفي الحملات الانتخابية الأميركية الأخيرة، كانت الأنظار تتجه مثلاً إلى تايلور سويفت، ولمن ستنحاز، الأمر الذي دفع دونالد ترامب إلى الإيحاء، بل محاولة إقناع الرأي العام، بأنها تؤيده، بنشره صورة لها مع تعليق مفبرك بأنها تدعو متابعيها إلى انتخابه. وعندما أعلنت أنها ستؤيد منافسته كامالا هاريس، توعدها بدفع الثمن.
في منطقتنا، تحديداً في مصر وسورية ولبنان، لعبت الفنون دوراً كبيراً في "التغيير"، في صناعة الصورة، وضمناً التسويق؛ فالسينما في مصر لم تنفصل منذ بداياتها عن التأثير والتوظيف السياسي. ومع صعود حافظ الأسد إلى السلطة في بلاده، برزت صناعة ما يسمى "التنفيس" عبر الدراما التلفزيونية، فما لا يُسمح للمعارضه به تقوم به الدراما التي كان نجمها الفنان دريد لحّام، بل إن شركات الإنتاج نفسها التي أنتجت أكثر الأعمال الدرامية جرأة ونقداً مباشراً للنظام ورجالاته كانت مملوكة لرجالات النظام أنفسهم، خصوصاً في حقبة الابن بشار.
لنقل إن دور الفنون وتعالقها بمراكز النفوذ والقوة مؤشر على تقدّم المجتمعات، وتعقيداتها وتداخل مستويات السلطة والتأثير فيها. هذا يفسّر استهجان الاهتمام بمواقف الفنانين السوريين من خلع رئيسهم، فهو يصدر عن ريفية لا مدنية، عن كائن ما قبل الدولة، عن ثنائية الأبيض والأسود التي تعزل بشار الأسد عن حاضنته، والأخيرة ليست طائفة، بل خليط مكونات اجتماعية ومؤسساتية، أنتجت روايتها وفنونها التي تسوّغ، وبالتالي تسوّق صورة بعينها للنظام تساعده ليبقى. ولها في شأنها هذا مرافعاتها الدرامية، المتماسكة والمؤنسنة، فهو (النظام) وإن كان خشناً في التعامل مع معارضيه، فإنه ديمقراطي في العمق، ويسمح بانتقاده على رؤوس الأشهاد، لكنه يضطر في محاولاته للحفاظ على تماسك المجتمع والدولة، إلى قمع قوى الإرهاب التي تهدّد بنية المجتمع وتقسّمه وتهدد بتفكيكه. ألا ترون أنه معاصر ومثلنا؟ ولو كانت الظروف غيرها لما فعل ما فعله، بل ربما نقل البلاد إلى مستوى جديد يجعلها الأكثر تقدماَ في المنطقة.
هذه الصورة، وهذه المرافعات الذكية التي كنا نعثر عليها في كثير من الأعمال الدرامية السورية التي تعاين وحشية رجالات الأسد، كانت تقول ضمناً إن الأسد نفسه ليس هؤلاء، بل إنه ضدهم، وربما يكون مضطراً لهم، لكنه في نهاية المطاف صمّام الأمان لنا منهم وفي مواجهتهم، ومواجهة معارضيه أيضاً الذين يستهدفوننا جميعاً بالإرهاب، فلنحافظ عليه ونتمسك به لأن البديل كارثي في كل المقاييس.
هذا جعل بعض الفنانين السوريين يصدّقون الرواية الذكية التي تسرّبت عناصرها تدريجياً في الصناعة التلفزيونية السورية، فأصبحت تأسيسية، بل يدافعون عنها، متناسين أو غير عارفين بأنها جزء من الدور الوظيفي للدراما كما أراده النظام، ذلك أنها بالغة الذكاء والإقناع، وبقدر ما تشبع رغبات الفنانين في التعبير عن أنفسهم وأدوارهم في مجتمعهم، بقدر ما كانت تلبي رغبات النظام في التوظيف، وحصد النتائج التي كانت تشير إلى نظام متحضّر من جهة ومتوحش في أخرى، وإلى أن بقاء رأس النظام حاجة وضرورة وليست ترفاً، ودعك من مسألة حقوق الإنسان على ما أفلحت الصورة في تكريسه.