حين بلغ الشاب داود حسني (1870 - 1937) سنّ العشرين، كان قد حصّل قدراً كبيراً من الدراية الموسيقية، التي مكنته من صوغ أولى تجاربه في التلحين، متمثلة بدور "الحق عندي لك"، ليتقدم به إلى اللجنة التي يرأسها شيخ الطائفة، محمد عبد الرحيم، الشهير بـ"المسلوب"، كي ينال "إجازة" الممارسة العلنية للفن.
تلك الإجازة التي كانت تعرف حينها بـ"التحزيم"، وهو مصطلح يعني الإقرار بصلاحية المتقدم للغناء أو التلحين أو كليهما. منذ ذلك التاريخ، وعبر رحلة اقتربت من نصف قرن، انطلق داود حسني، ليحفر اسمه على جدران التاريخ الموسيقي المصري في أزهى عصوره، وليكون هو نفسه سبباً من أسباب ارتقاء الفن الغنائي وازدهاره في تلك الحقبة الذهبية.
يمكن اعتبار داود حسني إحدى أهم حلقات الوصل بين طرب عصر النهضة في القرن التاسع عشر، والروح الجديدة التي هبّت على الغناء المصري منذ منتصف العشرينيات. كان في الثلاثين من عمره عند رحيل عبده الحمولي ومحمد عثمان، وعند رحيل يوسف المنيلاوي وعبد الحيّ حلمي كان قد جاوز الأربعين.
كان لهؤلاء الأعلام أكبر الأثر في تكوينه الفني، ومذهبه التلحيني والغنائي. لكن الرجل امتلك قدرة مدهشة على مواكبة التطورات الكبيرة التي هيمنت على المشهد الموسيقي بظهور المسرح الغنائي والتنافس في تقديم فن "الأوبريت". ألقى الرجل بنفسه في هذا البحر المتلاطم، لينجز بالتلحين قرابة 30 مسرحية وأوبريت لكبريات الفرق التمثيلية في هذا التوقيت، ولا سيما بعد أحداث ثورة 1919.
لكن مواكبة التطور لا تعني وضع خط فاصل بين مرحلتين في مسيرة هذا الموسيقي الكبير، إذ إن الرجل لم يتوقف يوماً عن إنتاج الألحان وفق النمط النهضوي الموروث، فبينما هو غارق في تلحين الأغاني المسرحية والأوبريتات، استمر كذلك في صياغة روائعه من الأدوار لكبار المطربين والمطربات، كذلك ظل غناؤه محتفظاً بالأساليب التي تشرّبها من جيل الرواد، وهو ما يتبين بسهولة من الاستماع إلى ما حفظته الأسطوانات من تسجيلاته.
فبالرغم من أنه لم يمتلك صوتاً مبهراً، مثل يوسف المنيلاوي أو سيد الصفتي أو صالح عبد الحيّ، إلا أنه كان مكيناً في أدائه لأصعب الألحان وأعقدها. ولعل هذا ما يفسر حرص أكثر من شركة من شركات الأسطوانات على التعاقد معه، لتسجيل أدوار بصوته، سواء كانت من ألحانه أو من ألحان غيره. ولا ريب أن تسجيله لأدوار لم يلحنها، يعني أن حسني استطاع أن يضع نفسه على خريطة المطربين المطلوبين بين قطاعات مؤثرة من جمهور الإسطوانة.
من أهم الأدوار التي أداها داود حسني بصوته لأعلام الملحنين: "طف بكاس الراح"، و"فريد المحاسن بان"، و"دلالك يا جميل أشكال"، وكلها للشيخ المسلوب، وأيضاً أدوار: "فؤادك جد به حالات"، و"شربت الصبر بعد التصافي"، وكلاهما لعبده الحمولي.
كذلك، سجل من أدوار محمد عثمان: "أصل الغرام نظره"، و"بعد الغرام حبي اصطلح"، و"اليوم صفا داعي الطرب"، و"نور العيون شرف وبان"، و"من يوم ما عرفت الحب"، و"اعشق الخالص". وسجل أدواراً غير هذه، اختلف في نسبتها إلى ملحينها، إضافة إلى الأدوار التي غناها من ألحانه، ومنها: "القلب في حب الهوى"، و"أسير العشق ياما يشوف"، و"بالعشق أنا قلبي هاني"، و"نور العين شرف وبان".
من دون مبالغة، يُعَدّ داود حسني أكثر الملحنين المصريين اهتماماً بقالب الدور، فقد أحصى له الباحث السوري الراحل محمود عجان أكثر من 105 أدوار من تلحينه، وهو رقم كبير، لم يصل إليه أحد من أعلام عصر النهضة، سواء ممن سبقوا داود حسني، بمن فيهم محمد عثمان نفسه، أو من معاصريه، بمن فيهم إبراهيم القباني، بل إن ألحانه من قالب الدور تتجاوز أربعة أضعاف ألحان زكريا أحمد من هذا القالب. وبهذا يكون داود حسني، على الأقل من ناحية غزارة الإنتاج، أكبر ملحن للأدوار منذ ظهور هذا القالب في مصر منتصف القرن التاسع عشر، وإلى أن انتهى واندثر أواخر الثلاثينيات.
وتتسع قائمة من تغنى بأدوار داود حسني، لتشمل كبار أعلام الغناء في عصره، وفي مقدمتهم يوسف المنيلاوي، وعبد الحي حلمي، وزكي مراد، وسليمان أبو داود، وسيد الصفتي، وصالح عبد الحي، ومحمد سليم، وعلي عبد الباري، ومنيرة المهدية، وفتحية أحمد، وسكينة حسن، وعبد اللطيف البنا، وإبراهيم الفران، وغيرهم.
كذلك إن التعاون بين داود حسني وأم كلثوم، يمثل محطة بالغة الأهمية في مسيرة الرجل، وفي منجزه الضخم من الأدوار، فقد كان نصيبه عشرة ألحان من الأدوار التسعة عشر التي غنتها أم كلثوم. وقد تفنن وتأنق في تلك الألحان، فجاءت كلها في مستوى رفيع من التفكير الموسيقي، تعبيراً وتطريباً وإحكاماً.
ولا ريب أن هذا التعاون مثّل أيضاً إضافة مهمة ونوعية لأم كلثوم، التي كانت قد تربعت على عرش الغناء من دون أن تغني دوراً واحداً، فكان "شرف حبيب القلب" من كلمات أحمد رامي، أول تعاون بينها وبين حسني، وكان أيضاً أول تجاربها الغنائية من قالب الدور، وقد انحصر هذا التعاون بين عامي 1930 و1932، وهو ما يرجح أن تكون أم كلثوم قد اكتفت بزكريا أحمد في إمدادها بالأدوار، قبل أن تتوقف عن أدائها عام 1937.
بعد "شرف حبيب القلب"، توالت ألحان داود حسني من الأدوار لأم كلثوم، فصاغ لها: "البعد علمني السهر"، و"يوم الهنا حبي صفا لي"، و"حسن طبع اللي فتني"، و"يا فؤادي إيه ينوبك"، و"كنت خالي"، و"قلبي عرف معنى الأشواق"، و"كل ما يزداد رضا قلبك"، و"روحي وروح في امتزاج"، و"يا عين دموعك". وقد التزم داود حسني في هذه الأدوار الهيكل العام الموروث عن محمد عثمان، لكنه في كثير من المواضع ترك بصمته الخاصة، وأبدع في جملة الترديد "الهنك" و"الآهات" التي جاء بعضها لينمّ عن تفكير حداثي يتجاوز ما كان سائداً في تلك الأيام.
إلى جانب ذلك، فإن داود حسني واحد من الأربعة الكبار الذين تحملوا العبء الأثقل في مسيرة المسرح الغنائي المصري في الربع الأول من القرن العشرين، (إلى جانب كل من الشيخ سلامة حجازي، وسيد درويش، وزكريا أحمد). وهو يحتل هذا الموقع، بالمعيار الكمي، أو بالنظر النوعي على السواء. بذل الرجل جهداً كبيراً متواصلاً، لتقديم أرقى الألحان المسرحية التي حققت نجاحاً جماهيرياً ومادياً للفرق التمثيلية الكبيرة، ولا سيما فرقة الريحاني، وفرقة أولاد عكاشة.
ومن أمثلة إنجازاته الكبيرة في هذا الميدان، تلحينه أول أوبريت باللغة العربية الفصحى، "شمشون ودليلة"، بعد أن ترجمها الفنان بشارة واكيم عن الفرنسية. وأيضاً ألحانه المعبّرة لأوبريت "معروف الإسكافي"، وأوبريت "شاه بندر" التي استمر عرضها ستة أشهر، وكذلك "ناهد شاه" التي كتبها بديع خيري، وكذلك "الليالى الملاح" و"أميرة الأندلس".
ويمكن للمستمع المعاصر أن ينصت إلى طقطوقة "بسبس نو" التي لحنها داود حسني لبديعة مصابني، ضمن أوبريت "الشاطر حسن"، ليدرك أي مدى بلغ التفكير الموسيقي المسرحي لداود حسني، والغالب أن يظن المستمع أنه أمام لحن سينمائي وضع في حقبة الستينيات، لا العشرينيات، وأن صاحبه من المشتغلين بالألحان الشعبية الخفيفة، لا أحد أعلام الطرب النهضوي الذين وهبوا جل حياتهم لتلحين الأدوار الطربية الثقيلة. ربما كان الإنصات إلى ما سجل من ألحان داود حسني المسرحية سبباً كافياً للاقتناع بأن هذا الرجل من أولى الموسيقيين المصريين بالوصف الشائع "سابق عصره"، الذي يحلو كثيراً لصحافتنا أن تطلقه على ملحني عقد الستينيات.
ولد داود حسني في القاهرة في مثل هذا اليوم من عام 1870، لأب ينتمي إلى طائفة اليهود القرائين في مصر. أحب الموسيقى والغناء بدرجة لم يستطع معها أن يكمل مساره التعليمي، فاكتفى بنيل الشهادة الابتدائية، وأصرّ على الارتحال من القاهرة إلى مدينة المنصورة، لتعلّم أصول الموسيقى والعزف على العود.
هكذا، وضع نفسه في مركب شراعي يشقّ نهر النيل، ليصل إلى المنصورة، ويتتلمذ فيها على يد أستاذها الكبير المعلم محمد شعبان، الذي تتلمذ لديه عدد كبير من أعلام الغناء والتلحين في مصر. وتلك واقعة تثير استفهاماً مشروعاً عن مدى "مركزية القاهرة" في ميدان التعليم الموسيقي، ولا سيما مع تكرر الارتحال عنها إلى المنصورة أو طنطا أو الإسكندرية.
عمل داود حسني في شبابه بمحل لتجليد الكتب بشارع محمد علي في القاهرة، ما سهّل له فرصة الالتقاء بالإمام محمد عبده، الذي كان يترد على المحل، وقد حظي التلميذ بتشجيع الأستاذ الإمام واهتمامه، وكانت نبوءة عبده لداود بارتفاع شأنه في ميدان الغناء والموسيقى أكبر دافع للتعلم ثم التفرغ والاحتراف.
وتلك واقعة تستحق التوقف والتأمل، فأكبر وأشهر عالم أزهري، يشجع شاباً يهودياً موهوباً على احتراف الموسيقى والغناء، وتنشأ بينهما صداقة تستمر حتى رحيل الإمام عام 1905. والسؤال المشروع هنا عن مدى التطور المجتمعي المصري، في أواخر القرن التاسع عشر، مقارنة بما هو عليه اليوم.
أما أكبر الأسئلة المشروعة، بل الواجبة، فيختص بأسباب الإهمال التي نالت التراث الضخم لداود حسني، وهو أحد أكبر أعلام الموسيقى في القرن العشرين، وأحد عمالقة تلحين "الدور" وهو فن مصري خالص، لا صلة له بإشاعات التتريك وأوهام الهيمنة العثمانية.
كان داود حسني إحدى أهم المرجعيات التي استعان بها منظمو مؤتمر الموسيقى العربية الشهير عام 1932، لتوثيق عدد كبير من الأدوار التي كادت أن تندثر، وهو مع كل هذا أحد أعلام المسرح الغنائي الكبار، من ذوي الإنتاج الغزير، والأعمال المعبرة.
لم يلقَ داود حسني عشر الاهتمام الذي ناله تراث سيد درويش. كأنه سقط من حسابات القائمين على المؤسسات الثقافية عموماً والموسيقية على وجه الخصوص. وآخر الأسئلة: متى أقام أي من مسارح الأوبرا المصرية الثمانية ليلة خاصة لإحياء ذكرى رحيل داود حسني أو ذكرى ميلاده أو تقديم أعماله من الألحان والطقاطيق والأغنيات المسرحية؟ بل ما آخر مرة استمع فيها جمهور هذه المسارح إلى عمل لداود حسني غير "قمر له ليالي"؟