أول عرض عالمي للفيلم مثل جزءاً مركزياً في تظاهرة "ولادة أخرى، السينما الإيرانية هنا والآن"، التي نظّمها "مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي"، في دورته الـ57 (30 يونيو/ حزيران ـ 8 يوليو/ تموز 2023). عملٌ سينمائيٌّ خالص عن السينما والحياة: هكذا وُصِف "زاباتا" (2023) للإيراني دانِش إقبشاوي، في تقديمه للحضور. فرحة المخرج واضحة بوجوده أمام جمهور حقيقي، ملأ قاعة ضخمة وفخمة وأثريّة، في المدينة التشيكية الجميلة. تجلّت سعادته في حيوية ومرح، وفي شيءٍ من قلق يشعر به كلّ فنان وهو يُقدِّم نتاجاً غير مألوف إلى الآخرين، مترقّباً ردود فعلهم.
في "زاباتا"، ثالث فيلمٍ له بعد "تاج محل" (2013)، و"هيهات" (2016)، الثائر الإيراني لا المكسيكي، مخرج يحاول إيجاد تمويل لفيلمه. يخطف، مع قريبته كاتبة السيناريو، أغنياء، ليطلبا فدية تحقّق لهما ما يريدان. الفيلم محاكاة تهكمية لوضع صعب للسينما المستقلة في إيران، بمزيج مثير من كوميديا وقصة بوليسية وسخرية. فيه شيءٌ من شخصية صاحبه، حركةً وطرافة وطيبة، لكنها طرافة سوداوية، أقلّه في الفيلم. حركة لا تهدأ، ساهمت في الإحساس بها كاميرا سريعة مزاجيّة ومتعبة بهبوطها وصعودها ودوارنها وتقلّبها. كان مستغرباً إقبال من لا يميل إلى أفلامٍ كهذه على المشاهدة والاستمتاع.
بعد العرض، التقيتُ إقبشاوي لتحديد موعدٍ لحوار، فسألني رأيي بما شاهدت. سؤال تصعب الإجابة عنه أمامه. لكنّه، بطريقته الوديّة والمندفعة، التي تحمل شيئاً من طيبة وترقّب طفولي، يجعل الصراحة أمراً تلقائياً: "عادة، لا أميل إلى هذا النوع، لكنّي استمتعت به". فردّ فرحاً: "الحمد لله". قالها بالعربية، وتابع كلامه بها، فدانش من أبّ ينتمي إلى عرب إيران، وأمّ فارسية، وهو من عبادان. فخور بالكلام بالعربية، ومسرورٌ لاكتشافه أنّه، حتى في كارلوفي فاري التشيكية، هناك من يتكلّم العربية معه. ثم قدّم محمد رضا مسعودي، الممثل الرئيسي: هو أيضاً من عبادان. لهجة مسعودي عراقية بحتة، ما استدعى حديثاً أطول عن الأصول.
في حواره مع "العربي الجديد"، أصرّ دانش إقبشاوي (1979)، على التحدّث بالعربية. مع هذا، كان لا بدّ من مترجم لحوار تنقّل بين اللغات العربية والفارسية والإنكليزية.
الفيلم عن عمل السينما في إيران، عبر مخرج يحاول إيجاد تمويل. أهذه سيرة ذاتية، تمثّل ما تواجهه من متاعب؟ كيف بدأتَ العمل في السينما؟
آمل ألا أكون أتعبتُ الجمهور به. أنا من المطالبين بدور مسلٍ، ولو قليلاً، للسينما، إذْ عليها أنْ تتمتّع بقيمة فنية وترفيهية في آن واحد. أنْ تتحلّى بما يُقرّبها من الجمهور، ويجعله يتقبّلها. على السينمائيّ إظهار المعنى في اطارٍ مناسب، فيهتمّ به الناس. الجمهور هو الأصل، بالنسبة إليّ. يهمّني رأيه.
أمّا عن عملي في السينما، فبدأته عند بلوغي 17 عاماً في عبادان، بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية. شاهدتُ أفلاماً أميركية كثيرة بفضل تلفزيون الكويت، ومحطات عربية أتابعها منذ بداية التسعينيات الماضية. هكذا أحببت السينما، وتولّدت لديّ الرغبة في صنع أفلام. حقّقت أفلاماً قصيرة، وعملت مساعداً لمخرجين عديدين، من الذي يصنعون أفلاماً بإنتاجات ضخمة.
صوّرت "زاباتا" في 17 يوماً، وأمضيت عامين للانتهاء من مرحلة ما بعد الإنتاج.
من عملت معهم كمساعد مخرج؟ سمعت أنك شاركت في أفلام "الدفاع المقدّس" (أفلام دعائية تموّلها الدولة عن الحرب العراقية الإيرانية التي عُرفت في إيران باسم "الدفاع المقدس").
عملت مع أحمد رضا درويش في أفلام "الدفاع المقدّس". ينتمي "هيهات" إلى هذا النوع، ضمن 4 أفلام قصيرة، تناولت فيه مجتمع الجنوب. صبغته اجتماعية لا حربية.
في "زاباتا"، مرارة وتهكم ساخر وعنف
ما الذي دفعك إلى اختيار الهاتف وكاميرا صغيرة في "زاباتا"؟ لمَ لم تلجأ إلى التصوير الكلاسيكي؟ بسبب الكلفة، أم سعياً إلى حرية، وتخلّصاً من إجراءات إدارية، كالحصول على تصاريح التصوير من الرقابة؟
وإنجاز فيلم يجد فيه كلّ إنسان نفسه، ويرتبط به أينما كان. في "زاباتا"، مرارة وتهكم ساخر وعنف. لجمع كلّ هذا معاً بأسلوب متناغم ومتآلف، قررنا، فريق العمل وأنا، أنْ يكون الاقتراب من الفكرة والتعامل معها أوضح وأكثر تقبّلاً باستخدام وسائل تقنية محدودة، فيتوافق الشكل الفنيّ مع المضمون.
إنّها قصّة شباب يتمنّون إنجاز فيلم، لكنْ لا المال اللازم معهم ولا الأدوات المناسبة. يملكون فقط هاتفاً وكاميرا صغيرة. كنا على الموجة نفسها مع الشخصيات، والمثل يقول: "ما عندك سلاح إحمِلْ صخرة" (بالعربية). تحقيق السينما بالطريقة التي أرغب فيها يحتاج إلى مجموعة مجنونة.
ما فكرة العنف التي عملت عليها، والتي أردْتَ لها أن تُقبَل؟
لأندريه مالرو جملة تقول ما معناه إنّ المنتصر هو الذي يحارب. (لا توجد 50 طريقة للقتال، بل طريقة واحدة فقط: أنْ تكون المنتصر). حربنا من أجل البقاء، نحن مجبورون عليها، كما يفعل الفلسطينيون، وكما فعل غسان كنفاني. أليس كذلك؟ تمنّيت أنْ تكون لي حياة حرّة ومستقلّة. لكنْ، في النهاية، أردت القول إننا نواجه هذه النهاية: زقاق مسدود. أقصد في السينما الخاصة بي.
في الفيلم نبرة احتجاجية، تمثّلت خاصّة في النشيد الثوري الذي صاحب النهاية. نشيد جميل جداً، يحثّ على التمرّد، ويُفهم على أنّه موجّه ضد الحكومة. كيف اخترته؟
جاءت المغنية شاكيرا إلى المغرب عام 2011، للمشاركة في مهرجان موسيقيّ ("موازين"، الذي وصفه البعض، حينها، بأنّه باذخ، في وقت يعاني فيه الشعبُ فقراً. نُظّمت حفلات شعبية ووقفات احتجاجية للتنديد به، استخدم المخرج أغنية منها). غنّى الشعب هذه الأغنية المحلية. مسّتني، ووجدتها أفضل من أيّ غناء أوبرالي.
في الفيلم أيضاً مكوّنات عربية عدّة. كلمات أغنيات لعبد الحليم حافظ وأم كلثوم، ذكر الحصان العربي الأصيل. يندر سماع أغان عربية في فيلم إيراني. ماذا عن اهتمامك بالغناء والثقافة العربيتين؟ لماذا كلّ هذا الإصرار على الغناء العربي؟
شغفٌ به، وبهذه الأغنية المغربية. كما ذكرتُ، في صغري، تابعت المحطات التلفزيونية العربية، وتعلّقت بالأغاني العربية. أنا من عبادان، الواقعة على الحدود مع العراق، من عائلة عربية. كاتب السيناريو (كريم نيكونآذار) من هناك أيضاً. مدينة عبادان متعددة الثقافات، إذْ كان يقطنها أميركيون وعرب وهنود. عاديّ سماع كلّ أنواع الموسيقى، عربيةً وفارسية إلخ. كما أنّ هذا الخيار عائدٌ إلى ذوق المخرج والعاملين معه، من كاتب السيناريو إلى الممثلين. لكنّي لم أقتصر على الغناء العربي كمؤثرات صوتية. في "زاباتا" مراجع موسيقية متنوّعة، فارسية وأميركية أيضاً.
في صغري تابعت المحطات التلفزيونية العربية وتعلّقت بالأغاني العربية
تردّدت أيضاً، على نحوٍ هزلي، إشارات عدّة عن أوضاعٍ في إيران، فهناك جاسوس للجمهورية الإسلامية، وتجّار الدولار والمخدّرات، والمثلية، والنقود التي تتكلم فقط في البلد.
تجري الأحداث في مدينة. حين يُنجز فيلمٌ، شخصياته تقطن مدينة كبيرة، لا بدّ للعناصر التي تكوّن المدينة أنْ تتوفّر. في الوقت نفسه، حاولت جذب المُشاهد وربطه بما يحدث، وجعله يجد نفسه في النموذج الذي قدّمته، في هذا المكان الواسع والمتنوّع.
أشرت في نهاية الفيلم إلى المخرج الإيراني كيانوش عياري، وتحدّثت مع الجمهور عن عباس كيارستمي. ما علاقتك مع هذين المخرجين المهمّين في السينما الإيرانية؟
كيانوش عياري أستاذ قديم. حين بدأت توليف الفيلم، سعيتُ إلى أنْ يشاهده لإعطائي رأيه. الممثل محمد رضا، مؤدّي الشخصية الرئيسية، عمل مساعداً له. شجّعنا كثيراً. كان لهذا أثر إيجابي كبير. الفيلم غريب نوعاً ما، وغير مألوف. إنّها المرّة الأولى التي أستخدم فيها الهاتف الجوّال لصنع فيلم. خشيتُ من عدم تقبّل المنتجين والناس له. لكنْ، بمجرّد أنْ عرف المنتج رأي الأستاذ عياري فيه، أبدى ارتياحه، وتأكّد عزمه على المشاركة بعدما شاهد عمليات التحضير.
لكيارستمي مكانة كبيرة ومهمة ليس فقط عند المخرجين الإيرانيين، بل في العالم. كان نسمة منعشة في السينما. حين اختارت "دار السينما" (نقابة السينمائيين الإيرانيين) تنظيم جنازته في طهران، كنتُ من المشاركين في حمل تابوته.
المخرج أمير نادري من عبادان، مثلك. ألا تُعدّه مرجعاً لك؟ لم تذكره؟
أجل، طبعاً. إنّه في الفيلم. في مشاهد في البداية، والبطل المخرج مستلقٍ بيأس في غرفة النوم، كان هناك ملصق صغير لفيلم "العدّاء" (1985، لنادري). عند بلوغي 8 أعوام، اندلعت الحرب. تركنا عبادان ولجأنا إلى أصفهان. كان أبي يهوى السينما ويصطحبني معه إلى الصالات دائماً. كان لديّ هوس غريب بمعرفة الشخص الذي صنع الفيلم، وإنْ كان من مدينتنا. كنت أسأل أبي كل مرّة. كنت أشعر أننا فقراء، وأنْ ليس لدينا القدرة على صنع أفلام. إلى أنْ أخذني أبي ذات يوم لمشاهدة "العدّاء". سألته السؤال التقليدي، وفوجئت بمعرفة أنّه من عبادان. كانت فرحتي لا توصف. منذ تلك اللحظة، قرّرت العمل في السينما.
ما شعورك وفيلمك عُرض أمام جمهور كبير في "كارلوفي فاري"؟ هل تجد أفلامٌ كهذه جمهوراً في إيران؟
سعيدٌ جداً بهذا. إنّه أول عرض له، وفي هذا المهرجان المهمّ. شاهدته مع الجمهور، وأرغب في عرضه في إيران أيضاً. انتهينا منه قبل عام من الاحتجاجات الأخيرة. إنّه فيلم عن احتجاجات الفقراء في العالم. هذا أردت إظهاره. صوّرته بعد الحصول على تصريح قانوني في إيران، ولا يوجد مانع من عرضه.