حذاء بالنسياغا المهترئ... إعادة توزيع الذنب

10 يونيو 2022
نحن في النهاية أمام قمامة مصنعة بحرفيّة عالية (موقع دار الأزياء)
+ الخط -

تمتلك الأحذية تاريخاً ثقافياً غنياً، ليس فقط بوصفها جزءاً من نظام الأزياء، بل أيضاً كعلامات على الوضع الاقتصادي والنظام السياسي والجاهزية العسكريّة. تاريخ الأحذية غنّي. مثلاً، يمكن قراءة بعض الدلالات التاريخية، من حذاء اشتهر في سورية: حذاء "رين" الرياضي كان علامة على هروب الجيش الرسمي، وقمع المعتقلين. الحذاء العسكري علامة على السطوة الدكتاتوريّة. "سكربينة" كريستيان لو بوتان، ذات النعل الأحمر، علامة على الغواية والجاه. 

لم يصدق أحد أن علامة الأزياء الراقية "بالنسياغا" (Balenciaga) قد طرحت حذاءً للبيع، بلغ ثمنه السابق على الطرح ألف و850 دولاراً (تصميم آخر لذات الحذاء بلغ ثمنه 600 دولار). الاستغراب لم يكن من السعر، فدار الأزياء الإسبانية أصلاً، والفرنسية حالياً، معروفة بغلاء أسعار منتجاتها. لكن الحذاء الجديد الذي طرحته في باريس، لنشر الوعي حول دور الأزياء في التأثير على البيئة، لم يثر الحنق بسبب ثمنه، بل بسبب شكله، إذ وصفه البعض بحذاء "كونفيرس" مهترئ كلياً، ومن المعيب أن يُعرض للبيع. ووصل الحد بالبعض الآخر إلى وصفه بالخدعة التي لا يجب تصديقها.

بالطبع، اشتعل الجدل، ورأى بعضهم أن الحذاء عمل فنيّ، ويجب الاحتفاظ به لا شراؤه، وثمنه لا يعادل مقدار الضرر الذي سببناه للبيئة. نقرأ هذا الحذاء بوصفه علامة على عمليات "إعادة توزيع الذنب"، وهي مقاربة ثقافية سياسية، ترى أن الضرر الذي وقع على البيئة سبّبه الأفراد المستهلكون، أي نحن من نستخدم أكياس البلاستيك، ومن نشتري الأزياء الرخيصة، ونترك المخلفات البلاستيكية على الشاطئ، كي تدخل في أنوف السلاحف البحريّة... كل هذا ذنبنا نحن، أصحاب الدخل المحدود.

يمكن القول إن هذا الذنب الآن أصبح له مقابل مادي، بل ويمكن لنا دفعه، ولم يعد يقتصر على شراء الأكياس الورقية لملئها بالبقالة، ثم الصلاة كي لا تتمزق في نصف الطريق، وقضاء الوقت ونحن نلم البقالة من الصيف، مردّدين في سرّنا أن كل هذا لأجل الكوكب، وعلينا أن نعاني قليلاً لأجل أطفالنا.

حالياً، مع هذا الحذاء، الثمن ليس بقليل، بل ويزيد عن الحد الأدنى للأجور في أوروبا. لكن علينا، نحن المستهلكين، أن ندفع الثمن، وهنا بالضبط تتضح سياسة "إعادة توزيع الذنب"، عبر لوم المستهلك وزرع الذنب داخله. والآن إتاحة المجال أمامه كي يدفع ثمن ما اقترفت يداه. هذه المقاربة تُحرّر الشركات الكبرى من التزاماتها. بصورة أدق، تحوّل إنقاذ البيئة إلى جهد تعاوني، وهو إن أردنا أن نكون راديكاليين، فحله بسيط، لإنقاذ البيئة على شركات الأزياء التوقف عن صناعة الأزياء الرخيصة، ولتُتح لنا فرصة شراء كنزة أو بنطال يدوم لستة أشهر، من دون أن يتمزق ويتلاشى لونه. لتخفف شركات الأزياء من دوراتها السنوية، ولتكن أربعة مواسم، كما كانت من قبل، لا 16 كما هي الآن.

موقف
التحديثات الحية

ينطبق المثل الفرنسي Cream de la Cream، على حذاء "بالنسياغا". فهذا الأخير، أيضاً، ليس إلا الكريمة على قمة الكريمة. حذاء لا يمكن ارتداؤه، أشبه بالقمامة، علامة جمالية على خراب الكوكب الذي علينا أن ندفع ثمنه، ليس الشركة نفسها التي كان من الممكن أن تصنع أحذية رخيصة ومتينة تكفينا لسنة على الأقل. أفضل من "قمامة" كهذه، كما قال بعض المنتقدين. الأهم أن الحذاء المخرب علامة شديدة الإهانة. صحيح أنه حقّق الهدف الدعائي، وخلق ضجة إعلاميّة، لكنه يعني أيضاً أن الأزياء لم تعد فقط سريعة (هذا لا ينطبق على بالنسياغا الأشد غلاء). إيقاع المواسم لم يعد مهماً، طالما كل شيء سيتلف، فلم لا نبيع التالف مباشرة، من دون حاجة إلى هدر المال. وهنا لا نعلم بدقة إن كانت الدار تستهدف منافسيها "الأرخص ثمناً"، لكنها تهيننا نحن، بل وتسخر منا بأن تعرض علينا القمامة، سواء كان الثمن غالياً أو رخيصاً، لكننا في النهاية أمام قمامة مصنعة بحرفيّة عالية.

محاولة قراءة هذا الحذاء والشرط الذي نحن ضمنه أمر مفاجئ. شركة كبرى قادرة على أن تعرض "قمامة" للبيع، من دون أن يرف لها جفن، ثم تلومنا نحن المستهلكين على خراب الكوكب المحتم. الأهم، عادة ما يكون الحذاء المهترئ (للأسف نقارن هنا بلوحة الحذاء لفان غوخ) علامة على الشرط الاقتصادي. مع ذلك هو يقوم بمهمته، يحافظ على وظيفته كحذاء، كما أنه علامة على الجهد الذي يبذله مرتديه. في حالة "بالنسياغا"، الجهد المبذول لإنتاج الحذاء هو علامة على استنزاف طاقة الحياة من الكوكب بأكمله، ليس فقط فرداً أو جماعة. اهتراء الحذاء علامة على التهديد الذي يتعرض له الشرط البشري بأكمله، ليس مجرد شخص واحد.

دلالات
المساهمون