جين بيركين... أنوثة خرجت من تلك الحقيبة

23 يوليو 2023
رحلت أخيراً عن 77 عاماً (Getty)
+ الخط -

على متن طائرة إلى لندن سنة 1983، جرت ترقية جين بيركين من قبل إحدى المضيفات، إلى درجة أعلى، لتجد نفسها جالسةً إلى جانب سيّد مهذّب أنيق. لما همّت بالتقاط كرّاسها الجلدي الفاخر، من صنع الأسرة الفرنسية المعروفة في دنيا الأزياء "إيرميس" (Hermès)، المكتنز بدفاتر المواعيد وعديد القصاصات الورقية، انسلّ من يدها ليقع ويتبعثر ما فيه. علّق الجليس على الموقف قائلاً: "يجدر بكرّاسك أن يحوي جيوباً تؤوي أغراضك". ردّت بيركين: "هيهات، فكرّاسات إيرميس لا جيوب لها". أجاب الرجل: "أنا إيرميس".

انتهزت جين المحادثة لتقترح تصميماً لحقيبة يد نسائية متوسطة الحجم، مزوّدة بجيوب، خطّته على كيس طوارئ ورقي للإراحة من الغثيان. لتُفاجأ بعد مُضيّ مدة باعتماد دار الأزياء التصميم المقترح، ومن ثم إنتاجه وتسويقه، مانحةً إياه بعد استئذان مُبتكرته، اسم "بيركين". في غضون فترة قصيرة، صارت حقيبة بيركين (Birkin Bag) من بين الإكسسوارات الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة، وقد يتجاوز سعرها اليوم المائة ألف دولار.

مثّل ظهور حقيبة بيركين إشارة إلى تبدّل صورة المرأة في المجتمع الغربي الرأسمالي، فترةَ ما بعد الحربين العالميتين، الأولى والثانية؛ إذ لن تكون الحقيبة بالنسبة إلى نسوة ثمانينيات القرن الماضي مجرد محفظة للماكياج، وإنما وجب أن تكبر وتتسع، فتلبّي متطلبات عاملات الياقة البيضاء (White Collar) اللواتي صرن موظفات في المؤسسات الحكومية والشركات الخاصة، وأصبحن رائدات أعمال، يتبوأن مناصب إدارية، فيحملن معهن أينما ارتحلن وحللن، مصنّفات أوراقٍ ووثائق ودفاتر عناوين ومواعيد.

على الرغم من كونها صاحبة الفضل في ابتكار حقيبة المرأة العصرية، السيدة القوية المتمكّنة الملتحمة بالحياة والفاعلة في دفع عجلة الاقتصاد، عبّرت الشخصية الفنية التي ابتكرتها الممثلة والمغنية جين بيركين (1946 - 2023) عن حقيقة الصورة النسائية الراسخة في مجتمع لا يزال في العمق ذكورياً إلى حد بعيد. ولئن تحرر المظهر العصري بالهندام ولغة الجسد، ظلّت الصورة في باطنها محافظة ونمطية، ما انفكت تؤطّر المرأة كموضوع للحسن والجمال، وأنوثة مسطحة، سماتها العامة الرقة والهشاشة والضحالة، لا القوة والحسم والاستطاعة الفكرية.

كانت الغاليّة (Gallic) أي الفرنسية، نسبةً إلى الاسم القديم لفرنسا (بلاد الغال) أسلوب بيركين في تشكيل شخصيتها الفنية، مع أنها إنكليزية الهوية الوطنية، مولودة في لندن. كلٌّ من إقامتها في فرنسا وتشرّبها للغة الفرنسية، جعلت منها أيقونة الشاعرية الغاليّة زمان السبعينيات والثمانينيات، التي عكست أنوثة حسّية مغالية في الرقة والسلوك العفوي اللاهي، البعيد عن الرجاحة والجدية ورباطة الجأش.

في أغنية Je t'aime, moi non plus (أحبك.. أما أنا فلا)، التي أدّتها على شكل ثنائي (دويت) مع شريك حياتها الممثل الفرنسي سيرج غينزبورغ (1926-1991)، تعبّر جين عن الشاعرية الغالية بحنجرة تبوح أكثر من أن تقول، وتهمس أكثر من أن تغنّي.

بوصفه كاتب وملحن الأغنية، وبعد أن سبق له أن سجلها مع عشيقته السابقة الممثلة الفرنسية بريجيت باردو (Brigitte Bardot)، طلب غينزبورغ من بيركين، تجنّباً للمزاحمة بين النسختين، أن تغنَي على طبقة أشد ارتفاعاً، فيُسمع صوتها، على حد وصفه "كصوت صبي صغير". ساهمت شدة ارتفاع الطبقة الصوتية في إضعاف الحنجرة وقلّلت من فرص التحكم بها والسيطرة عليها، لتطبع الغناء بختم الهشاشة والنصف - جودة (Mediocrity)؛ فيغدو، بعد مزجه بحِذق بإيحاءات الإثارة الجنسية، علامتها الأدائية الفارقة.

تظهر العلامة الأدائية الغاليّة جليّة في أغنية Quoi (ماذا) التي صدرت سنة 1985 على طراز الأغنية الفرنسية (Chanson Francais) من كتابة غيزنبورغ، بالشراكة مع سيزار دي ناتال، تلحين غيدو وموريتزيو آنغيليس، والتي حققت نجاحاً ببيع أكثر من ربع مليون أسطوانة. في مقطعها الأول، ثمّة فاصلة غنائية ثلاثية تشقّ كلا من لفظتي Que، أي "سوى" بالفرنسية، وPour، أي "لأجل". في حين أن تنفيذها بمهارة، يستدعي من المغني إجادة القفز بصوته بين النغمات. تدع جين صوتها يزلّ، ليُسمع كما لو انقصف وانكسر قبل أن يُدرك النغمة العليا.

يُضاف الإيحاء الجسدي والرقص على الأداء الغنائي الحسّي والهش تعبيراً عن أنوثة مختزلة ضمن مظهري الإغراء والاستكانة. في مقطع مصوّر لأغنية كتبها ولحنها غينزبورغ بعنوان دكتور فاوست (Docteur Faust) أعدّها ووزّعها جان كلود فانييه، ترقص جين مرتديةً فستاناً أزرق برّاقاً.

على إيقاع الروك آند رول المصاحب بالغيتار الكهربائي من طراز الفانك، يتلوّى جسدها ويهتز خصرها، تحرّك رأسها فينسدل شعرها الذهبي مرةً على كتفها الأيمن ومرةً على الأيسر. ثمّ يقابلها رجلٌ ببدلة سوداء، جالساً إلى طاولة، يراقبها من دون انفعال، إلى حين مبادرة جين بسحبه إلى داخل الحلبة، فترتمي بين ذراعيه في استغراق وهيام، ويرقصان معاً.

 عبّرت شخصية بيركين عن صورة نسائية راسخة في مجتمع ذكوري

لا يُعزى شيوع الصورة النمطية للمرأة في عالم الموسيقى والسينما والتلفزيون زمان السبعينيات والثمانينيات إلى جين بيركين ومثيلاتها وحسب، إنما كان نتاج ثقافة جماهيرية، بدت وكأنها تتموضع في ردّ فعل إزاء السيرورة التقدمية منذ بداية القرن الماضي. ففي حين صار نموذج المرأة العاملة، العازمة، المؤثرة في الحياة واقعاً يفرضه التطور الاجتماعي والنمو الاقتصادي، استمرت النظرة المحافظة التي لا ترى حضوراً للمرأة، سوى من باب الموضوع الجنسي، خصوصاً في قطاع الصناعة الترفيهية.

قد ساهم الإنتاج الفني في تعليب وتعميم تلك النظرة المحافظة من خلال تسويق ما بات يُعرف بـ"الرمز الجنسي" (Sex Symbol)؛ أي الشخصية الفنية القائمة على الجاذبية الجسدية أولاً، ثم المقومات الأدائية والملكة التعبيرية ثانياً. اليوم، ثمة دفعة جديدة تتلقّاها الحركة النسوية في إطار المساعي لكسر التنميطات الذكورية حيال النساء، عساها أن تنجح هذه المرة في أن تتجاوز بتحرّر المرأة مآلات التسليع، الذي لا يرى أيّة فروق حقيقية بين قضية وحقيبة.

المساهمون