جيريمي كلابان (2/ 2): صناعة أفلام تحريكٍ قصيرةٍ مُرهقةٌ جداً

10 ديسمبر 2021
جيريمي كلابان: دائماً نفتقد شيئاً ولا نقدر أنْ نكون كاملين (الملف الصحافي)
+ الخط -

(*) في "فقدتُ جسدي"، هناك مَشاهد كثيرة تحدث في ضواحي باريس، ليلاً. كيف اشتغلتَ على تصميم الديكور؟

نمذجة الديكور أولاً تعطي الرسم طابعاً ملموساً. أي أنّ الرسم يبدو حقيقياً. أحياناً كثيرة، عندما نرسم، خاصةً عندما لا تكون لدينا مناظر ثلاثية الأبعاد في الخلفية، نسلك طرقاً مختصرة، ونرسم مناظر مستقيمة قليلاً، فيأخذ فجأةً الشعور بأنّك مُحاطٌ بمساحات حقيقية في التلاشي. مَكّننا استخدامُ بيئةٍ ثلاثية الأبعاد، حقّاً، من تفادي هذا. أتاحتْ البيئةُ أيضاً امتلاك كاميرات تتحرّك مكانياً في مساحة ثلاثية الأبعاد، لإعادة استغلال الخلفيات المرسومة، ولإرباك المسارات قليلاً. يُلاحظ جيداً أنّ الخلفية مرسومةً، لكنّها في الوقت نفسه تتحرّك كخلفية ثلاثية الأبعاد.

هذا يرفع المستوى الفنّي للفيلم. هذا يشبه "ثنائية أبعاد بلاس"، نوعاً ما، أو ثنائية أبعاد معزّزة. تُدرك أنّ الأمر يتعلّق برسمٍ فقط، إذا ما التقطتَ صورةً ثابتةً للشاشة، وما إنْ تعد إلى مُشاهدة الفيلم، حتى تظهر الأحجام.

 

(*) نوع من البروز البصري على الشاشة.

تماماً. أحبّ هذا الجانب، أنْ ألج مدينةً كرتونية بهذا الشكل. إضافة إلى ذلك، سمحت باريس لي بأنْ أجد زوايا كاميرا غريبة، ليس سهلاً اختراعها من دون إمكانية التجوّل في الديكور، بفضل الكاميرا الافتراضية. زوايا تصبح بمنظورها هندسة الشوارع، التي اعتدنا رؤيتها يومياً، أشبه بسفن فضاء، أو شيء من هذا القبيل.

 

(*) من يشاهد أفلامك القصيرة، ويتبعها بالطويل، يلاحظ تناسقاً في المواضيع، خاصة فيما يتعلّق بمفهوم الفراغ، المُراد ملؤه، والذي يعكس الحالة الذهنية للشخصيات، وينعكس رسومياً في فكرة الفضاء الشاغر. هل سبق أنْ قمتَ باستبطانٍ لمعرفة أصل هذه الفكرة المهيمنة؟ هل تعود مثلاً إلى قراءاتك المفضّلة؟

لا. أحبّ عادةً قراءات مثل هاروكي موراكامي، حيث يُمكن أنْ ينبع الغرائبي، في كلّ لحظةٍ، من اليومي والاعتيادي. مثير للاهتمام أنّي لم أفكّر في الأمر مطلقاً، قبل أنْ تخبرني به الآن. مفهوم الفراغ، الجزء المفقود، الفضاء المُراد ملؤه. أحاول قول أشياء ليست بالضرورة مرئية. مثلاً، في "سكيزين"، الجنون غير مرئي. لا نرى جنون الأشخاص عادةً. لذا، أحاول ترجمته من خلال هذا الانزياح البصري. الفراغ يحكي دائماً شيئاً ما. حتى بالنسبة إلى هذه اليد في الحقيقة. موضوع الفيلم يدٌ مقطوعةٌ، لكنّ الفيلم لا يتمحور حول اليد المقطوعة، بل حول الجزء المفقود. يتعلّق الأمر بالجسد الذي يفتقد شيئاً ما، اليد طبعاً، إذا توقّفت عند المستوى الأول من القراءة، لكنّه في العمق الطفولة. هذا جسدٌ تمّ فصله بحدّةٍ عن طفولته، من دون أنْ يُنجز الحِداد. من هنا، الشعور بعدم الاكتمال، بأنّنا دائماً نفتقد شيئاً، ونشعر أنّنا لسنا قادرين على أنْ نكون كاملين.

تُخبرنا هذه اليد أيضاً، مع نهاية الفيلم، أنّه ينبغي علينا دائماً المضي قُدماً، حتى لو كنّا ناقصين جسدياً، أو إذا سَلَبت الحياة منّا شيئاً بسبب محنة أو صدمة، لا يزال بإمكاننا التحسّن. أنْ نكون نسخة أفضل من أنفسنا، في كلّ مرّة.

 

 

(*) هناك جانب تجريدي لهذه الأسئلة، يمكن لسينما التحريك، كفنٍّ تصويري بامتياز، المساهمة في التعبير عنه.

نعم. لكنّي في البداية لم أرغب في الحديث عن هذا الجانب. مثلاً، "سكيزين" يتحدّث عن الفصام، لكنّي لم أقرّر أنْ أصنع فيلماً عن الفصام. ربما لو استهلَلْتُ الفيلم بفكرة الحديث عن مرضٍ ما، لأنّي أعرفه جيداً وأرغب في التطرّق إليه، لحصلتُ على شيء ثقيلٍ وفجّ. في الحقيقة، أستخدم الخيال لرؤية الواقع من زاوية أخرى. من دون هذا العنصر الغرائبي، ستنظر إلى الواقع وجهاً لوجه، ولن يكون الأمر مثيراً للاهتمام. هذا العنصر الرائع يجلب لي الشِّعر، وإمكانية مفاجأة المُشاهد الذي لا يتوقّع منّا أنْ نتحدّث عن أشياء كهاته. هذا يمنحني زاوية ملاحظة لا أملكها في الواقع. خطوة إلى الجانب لأنظر إلى الأشياء بشكل مختلف، ما يسمح ببعض الخفّة في طرح أسئلة وجودية إلى حدٍّ ما، من دون فجاجة.

 

(*) ما الآثار المترتبة على اقتناء حقوق عرض الفيلم من "نتفليكس"، ومُشاهدته في أنحاء العالم؟ هل لديك تجارب عن تصوّرات نسجتها ثقافات مختلفة للفيلم، لم تفكر فيها بالضرورة؟

في الواقع، كون الفيلم متوفّراً على "نتفليكس" يُقلّل حتماً من حجم التفاعل مع المتفرّجين. يمكنك مقابلتهم عندما تأتي إلى المهرجانات، وهذا ينقص في تجربة المنصّات. شاهدتُ فيلمي مع الجمهور في فرنسا، لأنّه عُرض في الصالات، وفي مهرجاني "كانّ" و"آنسي"، لكنْ لم تكن له حياة حقيقية في المهرجانات. لذا، لم تُتَح لي فرصة الحصول على ردود فعل مباشرة كثيرة حوله. فقط كانت لديّ مشاعر. أعلمُ أنّ هناك ثقافات أكثر حساسية تجاه الشِّعر، كما في الهند مثلاً. لأميركا الجنوبية حساسية أكبر لتقبّل الفيلم، ربما أكثر من ثقافات أخرى، كالجرمانية، التي تُفضّل أشياء أكثر واقعية.

 

(*) وكيف استُقبِل في الولايات المتحدة الأميركية، الدولة التي تهيمن على عالم سينما التحريك، وتحدّد نوع السائد فيه؟

تلقيتُ تعليقات من هناك. كثيرون لم يرقهم الفيلم، لأنّه مزعج ومُقلق لهم. في الواقع، لم يكونوا قادرين على قراءة فيلم تحريك للكبار مع يدٍ مقطوعة تتجوّل في كلّ مكان. كانوا يتوقّعون شيئاً مختلفاً تماماً، إلى درجة أنّهم لم يتمكّنوا من التقدّم خطوة نحوه. بعض آخر أكثر انفتاحا على التغيير، تمكّن من رؤية البعد السينمائي فيه.

لاقى الفيلم استحساناً كبيراً خارج نطاق سينما التحريك في الولايات المتحدة. أقصد من أكاديمية "أوسكار" والنقّاد في لوس أنجيلس ونيويورك وولايات أخرى، حيث خرج الفيلم مُتوّجاً، حتّى على أفلام الحركة الحيّة أحياناً. نقّاد الأفلام يهتمّون أكثر بأفلام مختلفة من هذا القبيل، تهزّ أفق التلقّي. من هنا أتت المكافأة التي تلقّاها الفيلم منهم.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

(*) فيلمٌ يلقى كلّ هذا النجاح، فأعود إلى الوراء، وأسأل: كيف واجهت المشاكل العويصة للعثور على تمويلٍ كافٍ له؟ أليس هذا سبباً كافياً للقلق؟

ما يحدث في الواقع أنّ هناك أقداراً تتقاطع. جئتُ من الأفلام القصيرة، ولم أكن أعرف ما الذي ينبغي عليّ فعله بعدها، لأنّ صناعة أفلام تحريكٍ قصيرةٍ متعبة ومُرهقة جداً، مع تضحيات عائلية وغير عائلية كثيرة. صحيحٌ أنّ هناك مكافأة عندما نشاهدها في المهرجانات، وتحصل على جوائز. لكنْ، بمجرّد اختبار هذا الأمر 3 أو 4 مرّات، حتّى تقول لنفسك: لماذا أبذلُ كلّ هذا المجهود؟ إنّه شيءٌ معقّد، في الواقع. لم أرغب في إضاعة الوقت في تطوير قصّة فيلم تحريكٍ طويل، لأنّ كلّ القرائن، في ما كنتُ أراه حولي، لم تكن تُشجّع على ذلك. كنتُ متأكّداً أنّ صناعة التحريك ستخبرني أنّ ما كتبته ليس جيداً، وأنّه يتعيّن عليّ التفكير في قصصٍ تتوجّه إلى اليافعين أو الأطفال، أي كتابة شيءٍ لم أرغبْ يوماً في إنجازه.

من ناحية أخرى، كان لمنتجي مارك دي بونتافيس قصته الخاصّة أيضاً. أراد تغيير ما كان يقوم به، فالتقى مسارانا في مشروعٍ لغيوم لوران، الذي ألّف كتاباً مجنوناً عن يدٍ، غير قابل للاقتباس إلاً لسينما التحريك. لم نحصل على منح دعمٍ. تلقّينا القليل جداً من المساعدة على الإنتاج. هذه العقبة، والصعوبات الأخرى، سمحت لنا بالحصول على قناعات أكثر حول الفيلم، وأنْ نكون وحدنا في مواجهة الشقّ الإبداعي. أنْ نأخذ قرارات فنّية فقط، لا قرارات تخصّ التوزيع أو الفئة المُستهدفة منه. كيفية صنع أفضل فيلم انطلاقاً من مفهوم معيّن، من دون التخوف من ردّة فعل المتفرّج، أو ما إذا كان سيستوعبه أو لا. قلت لنفسي: إذا قمتُ بعملي جيداً، ووضعتُ نفسي في مقام المُشاهد الأول، كما فعلت في أفلامي القصيرة، ستسير الأمور على ما يرام. أشرِكُ المُشاهد في كتاباتي دائماً.

أنْ تكون مُخرِجاً، يعني أنْ تتأكّد من وجود أشخاص حولك، حتى لو لم يكونوا موجودين هناك بالفعل.

 

(*) الأفلام القصيرة تصلح لذلك قليلاً. اختبار الأشياء والاقتراب من الفيلم الطويل بمزيد من الثقة في اختياراتك.

نعم. إضافة إلى ذلك، حين تأتي حقاً من عالم أفلام التحريك القصيرة، تعلم جيداً أنّ هذا الشكل تُفضّله. شاهدتُ أشياء رائعة كثيرة في هذا الشكل، لأنّ فيه غنى كتابةٍ حقيقياً، وثيمات لن تجدها في فيلم تحريك طويل، حتى عند الانتباه إلى أنّ الفيلم الطويل يخضع لقواعد وإيقاع مختلف، وأنّه ينبغي المحافظة على انتباه المُشاهد، وأنْ يكون ذلك قيداً أحياناً. بينما في الفيلم القصير، يمكن فرض الأشياء في وقتٍ قصير، مع اقتراحات فنّية أكثر جذرية وقوّة. حتى الكتابة الرسومية، التي يمكنك الاحتفاظ بها على امتداد 10 دقائق بشكل مثير للاهتمام، تصبح مرهِقةً للمُشاهد ما إنْ تتجاوز هذا الحيّز الزمني. إما تفقد مخزونها، أو تتطلّب عملاً أكثر ممّا يلزم من المُشاهد. لذلك، نحن بحاجة إلى تنعيم الكتابة الرسومية قليلاً، لنجعلها قابلة للمُشاهدة لـ90 دقيقة.

المساهمون