جون مكافي... مُغامر أكبر من أن تسعه زنزانة

26 يونيو 2021
وُجد مكافي ميتاً في سجن في برشلونة (أدالبرتو روك/Getty)
+ الخط -

يختلف جون مكافي، مخترع برنامج مكافي المضاد للفيروسات عن "عباقرة" وادي سيليكون التقليديين. فهو لا يسعى للسيطرة على الاتصالات، أو الهيمنة على السوق أو مراكمة ثروة تتيح له أن يصعد إلى القمر. مكافي ببساطة أراد حياةً صاخبة، يمكن أن نتعرف على جوانبها ونكتشف خطورتها في الفيلم الوثائقي "غرينغو: الحياة الخطرة لجون ماكافي" (2016) الذي يتتبع سيرة حياته المتهورة والماجنة.
وُجد مكافي ميتاً في سجن في برشلونة يوم الأربعاء الماضي بينما كان ينتظر ترحيله إلى الولايات المتحدة. فالمبرمج المغامر يبرع في التخليّ والرحيل، كما حصل حين باع حصته في الشركة التي تحمل اسمه عام 2011 ثم هاجمها  بشدة، الأمر نفسه حين خسر ثروته عام 2008 وتخلى عن نمط حياته شديد الرفاهيّة، ناهيك عن ترشحه مرتين لرئاسة الولايات المتحدة.
التخلي عن الأفكار والأموال جزء من حياة مكافي، كل هذا انتصاراً لحريته التي انتهت بكونه تخلى عن حياته نفسها حد الانتحار شنقاً، أو ربما تكون الحقيقة عكس ذلك كلياً. إذ يقال إنه قتل في زنزانته، بعد أن ترك حرف Q، على حسابه الخاص على تطبيق "إنستغرام"، وكأنه يشير إلى جماعة Qanon المؤامراتيّة، مع تجاهل تام لتهم التهرب الضريبي والاحتيال التي أدين بها، وكان سيرحّل على إثرها إلى الولايات المتحدة. 


حياة مكافي مثيرة للاهتمام أكثر من موته، لا تكفي مقالة واحدة لرصد "الغرابة " المحيطة به. إذ يقال إن له 47 طفلاً، ومتهم بجريمة قتل، ولأسباب أيديولوجية رفض دفع ضرائب الدخل المتراكمة عليه، ناهيك عن أن زوجته كانت عاملة جنس، وتطول القائمة، التي تصل إلى حد الضغط السياسي، إذ عرض على كوبا المساعدة في تفادي العقوبات عبر استخدام العملة الرقميّة. 
كتب مكافي سابقاً على "تويتر" أنه من المستحيل أن ينال محاكمة عادلة، كما أن الحياة في السجن شديدة القسوة ولا يستطيع احتمالها، هو الذي عاش على حواف القانون في اليخوت يمارس ما يراه صحيحاً ومربحاً. كذلك فإن مواقفه "الأيديولوجية" الآن، ستجعله ينضم إلى قائمة الذين أرادت السلطة إسكاتهم، لما يمكن أن يفضحوه كحالة جيفري إيبستين صاحب جزيرة البيدوفيليا الشهيرة.
يجسد مكافي مفهوم المغامر، ذاك الذي يتبع حدسه وهواجسه، ويستفيد من حنكته لتحقيق ما يريد. لكن الاختلاف بينه وبين الآخرين هو نرجسيته، أي أنه يسعى في النهاية وراء مصالحه، لا قضية كبرى يدافع عنها ولا أفكار تستحق الوقوف عنها، هو ذاك البطل الفردي الذي يرى في رغباته أمراً لا بد من تحقيقه فقط لأنها أفكاره الشخصية.
لكن ما يمكن التوقف عنده في كل بارانويا ماكفي وحملته الرئاسيّة، والفيديوهات التي نشرها وتحض الناس على حذف مضاد الفيروسات الذي يحمل اسمه، أنه ينتصر للفردانية خارج سياق المراقبة التي تفرضها التكنولوجيا. هو يراهن على الحرية الفرديّة حد الإجرام، وضرورة ألا نكون مراقبين أو وخائفين من عدسة ما. 

يندرج الخطاب السابق ضمن موقف مكافي نفسه من الولايات المتحدة، والانحدار التقني الذي تشهده، إذ قال بوضح مرة إن الصين وروسيا تمتلكان مقدرات تكنولوجية قادرة على القضاء على الولايات المتحدة، البلاد التي ما زالت أسيرة النوستالجيا وماضي العظمة الوهميّة.
لكن، ما هي نسخة الواقع التي يتبناها مكافي، هو الرجل الأبيض، ذو المال، والسلطة والمعلومات؟ من الواضح أنه لم يكن يريد اتباع القوانين التي نخضع لها، وانتقاده لأنظمة المعلومات والمخابرات وما تقوم به الدولة من "حفظ" و"تخزين" يهدد الطبيعة البشرية وتعريفنا كبشر. فقضى حياته ينتصر للنزوات والإرادة الفرديّة، و يرى أنها جزء من تكويننا. التكوين نفسه المؤلف من حسنات وسيئات وهو جوهر التركيبة البشرية. هذا تحديداً المخيف في نسخة مكافي من الواقع: هل نريد فعلاً أن يُترك الجميع على هواهم لاتباع نزواتهم وحرية النجاة بجرائم قتل؟ ربما، إن كان الجميع متساوين و يمتلكون نفس القوة والسلطة، وإلا يمكن القول إن مكافي ليس إلا جزءا من تلك المنظومة التي ينتقدها، رجل قادر على النجاة بثروته والقيام حرفياً بما يدور في عقله من دون أي رادع.

المساهمون