وضعٌ حرجٌ يعيشه قطاع السينما في المغرب، لعلّه الأصعب منذ عقود. صحيحٌ أنّ الأزمة كونية، بسببِ جائحةٍ لم تزر بلداً لم تطبعه بإجراءات الاحتراز والغلق والمنع؛ لكنّ تأثّر قطاعات الثقافة والفنون بها يختلف من بلدٍ إلى آخر، بحسب حجم الإصابات، وتداعياتها على الحياة العامة، واختلاف السياسات العمومية المتّخذة.
ينبغي القول إنّ استراتيجية تدبير الشأن الثقافي في المغرب، بموازاة تطوّر الجائحة، لم تكن رحيمةً بالنشاط السينمائي. ففي حوار قصير مع إذاعة "ميدي 1"، صرّح بيار فرنسوا بيرني، مؤسّس مجمّع قاعات "أطلس" في الرباط، بمدى الإحباط الكبير الذي يعانيه المستثمرون والمشتغلون في قطاع استغلال السينما في المغرب، خصوصاً القاعات التي لا تتوفّر على أي سيولة في الخزينة، تُمكّنها من امتصاص التكاليف الباهظة، وأوّلها تعويضات الموظّفين: "لم يتكفّل "صندوق الضمان الاجتماعي" بأجور موظّفينا، وهذا مُستغرَبٌ جداً بالنسبة إلينا. يكفي مثلاً أنْ تفقد مقاولة تشتغل في السياحة 25 في المائة من رقم معاملاتها، كي تستفيد من التكفّل. نحن فَقَدنا 100 في المائة من رقم معاملاتنا، ولم نستفد بشيء، رغم الاتصالات والمراسلات العديدة التي أجريناها، وظلّت من دون جواب"، كما قال بيرني مُتحسّراً.
غياب الدعم والخطط
منذ إغلاق القاعات السينمائية في مارس/ آذار الماضي، أي منذ 8 أشهر كاملة، لم يُتّخذ أيّ إجراء كفيل بتخفيف تداعيات الأزمة على الشركات المالكة لهذه القاعات، ما عدا دفعة دعم يتيمة، تُغطّي جزءاً من الخسارة التي تكبّدتها القاعات في الأشهر الثلاثة الأولى من الحجر الصحي. بعد ذلك، لا شيء. لا السلطات سمحت بفتح القاعات، مع احترام إجراءات التباعد والاحتراز، في بداية الصيف، كما حدث في كلّ بلدان العالم تقريباً؛ ولا هي مدّتها بإعاناتٍ تُسدِّد، بفضلها، جزءاً من تكاليفها الكبيرة، في 4 أشهر كاملة: "إذا طلبْتَ، في محرّكات البحث على الإنترنت، كلمتي "سينما" و "بؤرة"، لن تحصل على أي جواب، لأنْ لا بؤرة نجمت عن أيّ عرض سينمائي بكلّ بساطة. في قاعة سينما، يجلس أشخاص يضعون أقنعة وقاية، مع مقعدين يفصلان مُتفرّجاً عن آخر، بينما ينظر الجميع في اتجاه الشاشة، من دون أنْ يتحدّث أحدهم إلى الآخر لأنّهم منشغلون بالفيلم. بحسب دراسة ألمانية، هناك (في القاعة هذه) احتمالٌ أقلّ 100 مرّة، لنقل العدوى من شخصٍ إلى آخر، من شركة تشتغل في فضاء مفتوح، أو من مطعم. لا نفهم تماماً دواعي استمرار إغلاق القاعات"، يوضح فرنسوا بيرني.
الأمر نفسه ينسحب على نشاط المهرجانات السينمائية في المغرب. كلّ طلبات تنظيم المهرجانات، التي تلت الدورة الـ21 (28 فبراير/ شباط ـ 7 مارس/ آذار 2020) لـ"المهرجان الوطني للفيلم بطنجة" قوبلت بالرّفض التام، في غياب أيّ مبادرة للاجتهاد أو المرونة، تأخذ بعين الاعتبار اختلاف الوضع الوبائيّ من منطقة إلى أخرى، أو مدى التزام الجهات المنظّمة بكل ضمانات احترام شروط السلامة والتباعد الاجتماعي، مع أنّ تجارب في دول عربية وأوروبية قريبة، تمرّ تقريباً في الظروف الوبائية نفسها المُسجّلة في المغرب، أثبتت أنّ المهرجانات، مثل القاعات، لا تُشكّل أيّ خطر، لتشكيل بؤرٍ أو لتسجيل إصابات.
"مخاطبونا هم مسؤولو "المركز السينمائي المغربي" و"وزارة الثقافة". لكنْ، ما استنتجتُه من تلميحاتهم أنّهم هم أنفسهم يقفون عاجزين أمام تدابير وزارتي الداخلية والصحة (...). سنستمر في الاستثمار في المجمّعات التي شرعنا في بنائها، رغم الوضع المُمعن في الصعوبة. يمكننا الصمود حتى تعميم لقاح، لكنّنا سنخلّف ريشاً كثيراً في أرض المعركة، وسنكون مُجبرين على التخلّي عن مشاريعنا المستقبلية". أضاف بيرني مُمتعضاً: "في الرباط وحدها، ستكلّفنا الأشهر الثمانية للإغلاق زهاء 10 ملايين درهم (مليون دولار أميركي)".
أيّ مُستقبل؟
مع الإعلان عن اختراع لقاحات ضد "كوفيد 19"، وعن حملة مُقبلة لتطعيمٍ تدريجيٍّ للمواطنين المغاربة به، في الأشهر المقبلة، يلوح أملٌ في انفراجٍ ربما يفضي إلى فتح القاعات في الربع الثاني من العام المقبل. لكنْ، يُطرَح سؤال: على أيّ شكل، وبأيّ ثمن؟ فالمؤشّرات كلّها تقول إنّ قطاع الاستغلال السينمائي في المغرب، الذي يعاني هشاشةً هيكلية واختلالات وظيفية، سيزداد تأزّماً بعد انصرام الجائحة، والخوف كلّه أنْ يتسبّب تخبّط السياسة العمومية، في تسيير الشأن الثقافي، في إفراز آثارٍ وخيمة، لا رجعة فيها، على مصير قاعات عدّة، وعلى مصير المشتغلين فيها.
يبدو أنّ المسؤولين عن هذا الوضع يؤْثِرون الجمود والتصلّب على المرونة والتكيّف اللازمين، لتجاوز الآثار والصعوبات من دون خسائر عميقة، مستعينين بالقول المأثور: "كم حاجة قضيناها بتركها"؛ بينما واقع سياساتهم يقول "كم حاجة قتلناها بتركها".