ثلاثون عاماً على رحيل النوبي أحمد منيب: تلك السنوات الذهبية كشمس الجنوب

27 فبراير 2021
"بجيلك من ورا الأحزان" من أبرز الأغاني التي لحنها منيب ووزعها الشاعري (أنس عوض)
+ الخط -

كل عام في ذكرى رحيله، تبدو استعادة سيرة أحمد منيب (1926 ــ 1991)، ونتاجه الفني والموسيقي، مهمة أصعب. فمع مرور 30 عاماً على رحيله، بات اسم منيب مختزلاً بتعاونه مع محمد منير، لا بل بصناعة نجومية الـ"كينغ". لكن، في ذلك ظلم كبير لمنيب، لموسيقاه، ولتاريخه الفني.

لا خلاف على أن أحمد منيب أشهر الملحنين النوبيين، رغم أنه لم يكن الوحيد الذي سطع نجمه في عالم الموسيقى. وسبب شهرته الواسعة هذه هو اختلاف ما قدمه عن الجيل الذي عاصره من الملحنين الجنوبيين؛ إذ نجح في تقديم نفسه كملحن مصري قادر على إنتاج ألحان مختلفة لأكثر من فنان، من دون أن يحصر نفسه بتلك النوبية التقليدية التي اعتمدها رفاقه من ملحني تلك المنطقة. وهي عموماً الموسيقى التي تعتمد بشكل أساسي على السلم الخماسي، وهو سلّم موسيقي مؤلف من خمس نغمات، ومحدود الحركة، الأساس فيه هي الإيقاعات التي تتوزع عليها النغمات.

عرف منيب كيف يعفي نفسه من هذه المحدودية، ويقدّم موسيقى مصرية، مع الحفاظ على جذوره وثقافته واستخدامها بذكاء في تأليف الألحان. كثيراً، وبشكل رومانسي، تم الحديث عن علاقة منيب بالعود، وكيف أنه اختار العزف على آلة ليست نوبية، وكيف تأثّر نتيجة لذلك بالموسيقى الكلاسيكية المصرية وقتها، وتراكمت وتداخلت كل هذه المدارس الموسيقية في عقله لتنتج في النهاية عشرات الألحان التي قدّمها. لكن للعود دوراً رئيسياً في تمييز منيب عن زملائه الملحنين النوبيين، وهو التميّز الذي خلق له علاقات في كل الوسط الفني ومع كل الفنانين.

وقد عرف جيداً كيف يؤلف موسيقى تليق بصوت كل نجم من نجوم السبعينيات والثمانينيات، من محمد منير إلى حسن الأسمر. طبعاً، لا يمكن تجاهل تجربة منيب مع محمد منير، لناحية فرادتها واستثنائيتها، فالرجلان قادمان من نفس المكان الجغرافي والثقافي، وامتلك كلاهما نفس الانفتاح على تجربة أصوات وإيقاعات موسيقية مختلفة وجديدة وغير تقليدية، لكن الأهم يبقى العنصر الثالث الذي دخل على هذه الثنائية، وهو التوزيع الموسيقي. فالموزعون الذين عمل معهم منيب/منير امتلكوا رؤية موسيقية متطورة وسابقة لباقي التجارب المصرية التي عمل معها منيب.

"من ورا الأحزان"

ما هي، إذن، التجارب الأخرى التي خاضها منيب؟ أشهرها (إذا استثنينا محمد منير) هي تلحينه أغنية "الحب ليه صاحب" لعلاء عبد الخالق (1985 من ألبوم "مرسال")، التي أعاد منيب تقديمها بصوته كذلك عام 1989، ضمن ألبوم "يا عشرة". كانت الأغنية مناسبة تماماً لصوت عبد الخالق، وبتوزيع "تجاري" إن جازت التسمية، يشبه كل توزيعات تلك الفترة التي أرساها حميد الشاعري. ببساطتها وعدم تحميلها أي ادعاءات، نجحت الأغنية لتصبح واحدة من أشهر أعمال علاء عبد الخالق.

لذلك، يعتبر تعاون منيب مع علاء عبد الخالق من أنجح تجارب الملحن النوبي، علماً أنها حملت عوامل نجاح مشتركة مع تجربة منير: الكلام واللحن المناسبَين، والتوزيع المناسب لصوت المغني، وهي عموماً الخلطة السحرية لنجاح أي أغنية، تحديداً في ثمانينيات القرن الماضي.

نجاح "الحب ليه صاحب"، أفضى إلى تعاون آخر بين عبد الخالق ومنيب عام 1987 في أغنية "الحب بحر" (ألبوم "وياكي")، التي توحي عند الاستماع إليها أنها استكمال لـ "الحب ليه صاحب"، لناحية اللحن والتوزيع، لكن ذلك لم يمنع نجاحها كذلك، وتحولها إلى أغنية "هيت" وقتها.

ثاني تجارب منيب الناجحة هي تعاونه مع حميد الشاعري، تحديداً في سابع ألبوماته "حكاية". أنجح أغاني الألبوم حتى اليوم هي "بجيلك من ورا الأحزان" التي أداها الشاعري أيضاً مع علاء عبد الخالق، وكانت من ألحان أحمد منيب. بدت الأغنية درساً تجارياً في كيفية إصدار أغنية "متكاملة" فنياً وإنتاجياً من ناحية اللحن والكلام، والأداء والتوزيع. وهي المدرسة التي أرساها عموما الشاعري، صاحب الفضل الأكبر في تغيير نمط التوزيع في أغاني البوب المصرية، وصانع مئات الأغاني التي أعلنت نهاية عصر كامل من التوزيع الموسيقي الكلاسيكي.

نظراً إلى أن سنوات منيب الذهبية كانت في الثمانينيات، كان لا بد له أن يتعاون كذلك مع نجمين آخرين من تلك المرحلة: إيهاب توفيق وهشام عباس. مع إيهاب توفيق، قدّم أغنية "إكمني"، من الألبوم الذي حمل نفس الاسم وصدر عام 1990. أعلن الألبوم انطلاقة إيهاب توفيق نحو عالم النجومية. عرف منيب كيف يعطي توفيق لحناً يناسب طبقة صوته، وأغنية تجارية، لكن بقالب محترف. وهو ما حصل كذلك مع هشام عباس الذي غنّى من ألحان وتوزيع منيب "من طفولتي".

نهاية الثمانينيات، أيضاً، غنى محمد فؤاد "صدقني يا صاحبي" التي كانت تشبه تجربة منير مع منيب، سواء على مستوى اللحن أو على مستوى التوزيع (محمد هلال)، لكن تنفيذها جاء مناسباً ومنساباً لصوت وأسلوب محمد فؤاد وقتها. الأغنية نفسها أعادها منيب في ألبوم "يا عشرة" الذي أعاد فيه أداء أكثر من أغنية لحنها لفنانين آخرين، مقدماً نسخة "صافية" من هذه الأعمال، متسلحاً بصوته وعوده، وهي النسخة التي عادة تعجب شريحة محددة من الجمهور، شريحة "السميعة" الذين يتعاملون مع أي أغنية على العود، كأغنية طربية.

"الحلو ساكت ليه"

أما مع الأصوات النسائية؛ فقدّم "الحلو ساكت ليه" عام 1989 مع حنان، في لحن قريب إلى لحنه الأشهر "الليلة يا سمرا"، ولحن لمنى عبد الغني أغنية "حالي"، التي لم تعرف النجاح الحقيقي كما حصل مع باقي الفنانين الذين تعاونوا مع منيب.

أغنية أخرى لم تنجح، لكنها هذه المرة كانت نتيجة مغامرة من منيب؛ إذ اختار العمل مع المغني الشعبي كتكوت الأمير، في أغنية "تمايلي"، التي لم تكن تشبه باقي أعمل المغني المصري، بل كان لحنها نوبياً خالصاً، وهو ما جعل نجاحها في أرجاء محبي الأغنية الشعبية المصرية شبه مستحيل. وبأغنية شعبية، نقصد هنا، أنها عمل شعبي قاهري، أي ما اعتاده الجمهور المصري من كتكوت الأمير وباقي المغنين الشعبيين. وهو جمهور نادراً ما يتأقلم مع التغيير السريع في الصوت الموسيقي الذي يقدمّه فنانهم المفضل. فيشكّل التغيير كسراً في العلاقة بينه وبينهم، وبالتالي لن تلقى الأغاني "المختلفة" صدى إيجابياً.

الأمر تكرر مع نجم الأغنية الشعبية حسن الأسمر؛ فغنى "مين بيعيش" من ألحان منيب التي بدورها لم تحقق نفس نجاح الأسمر في باقي أغانيه، للأسباب نفسها المذكورة أعلاه.

للحديث تتمّة

من أيضاً؟ عمرو دياب؟ الحقيقة أن خطأ شائعاً ينسب إلى منيب تلحين أغنية "يا طير يا متغرب" (ألبوم "خالصين" 1987) التي لم تعرف أي نجاح يذكر، عكس باقي أغاني الألبوم الذي شهد على تكريس دياب واحداً من نجوم الساحة الغنائية المصرية التي كانت تبني مشهدها الجديد بمجموعة من نجوم موسيقى البوب الشباب. نظراً إلى أن اللحن نوبي، وإلى أن منيب تعاون في تلك الفترة مع كل مغني المرحلة، التصق اسمه بالعمل، لكن في الحقيقة الأغنية من ألحان مصطفى دويدار.

في ذكراه الـ 30، يبدو من الضروري إعادة تقييم تجارب منيب الموسيقية، ودوره البارز الذي يتم تجاهله غالباً في تقديم أغاني بوب مصرية خالصة، ساهمت في صناعة نجوم شباب جدد في الساحة المصرية، وهم النجوم الذين صنعوا، بعد رحيل منيب، حقبة التسعينيات العربية الذهبية في مجال الأغنية التجارية.

وللحديث تتمة، تتمات كثيرة قد تكون بعيدة عن الموسيقى وعن الغناء. أحاديث في السياسة، والنضال، واليسار، والتهجير، والعلاقة بالأرض، ثمّ السجن. السجن تحديداً الذي فتح لمنيب باب لعلاقات مع شعراء وكتاب أغان. تجربة كشفت له عن آفاق فنية لم يكن مدركاً لها. ولعلّ القصة الأشهر تبقى ولادة أغنية "الليلة يا سمرا" في سجن الواحات، حيث كتب فؤاد حداد القصيدة ولحنها منيب، وغناها الفنان الجنوبي محمد حمام، وأهدوها إلى رفيقهم في الزنزانة المحامي زكي مراد. القصة التي تتناقلها الصحف والمواقع والفنانون، تتحول إلى ما يشبه الأسطورة الشعبية التي يستحيل أن يتأكد أحد من تفاصيلها كاملة، لكنها جزء من سحر أحمد منيب، من سحر جيل آخر من الملحنين والفنانين والشعراء.

دلالات
المساهمون