"ثقل التاريخ" في "برليناله": عنفٌ مُصوَّر سينمائياً وللموسيقى حضورٌ

18 مارس 2024
غالاتِيَا بِلّوتجي في "غلوريا": عنف سلطاتٍ بنكهةٍ موسيقية (الموقع الإلكتروني للـ"برليناله"
+ الخط -
اظهر الملخص
- مهرجان برلين السينمائي الـ74 يسلط الضوء على أفلام تتناول "ثقل التاريخ"، مستكشفة الأحداث التاريخية والجرائم الأخلاقية والثقافية والاجتماعية، وتقدم قراءات ترتبط بالمصالحة والتطهير.
- من بين الأفلام المعروضة، "من هيلدا، مع الحب" يتناول جرائم النازية، و"أشياء صغيرة كهذه" يستعرض الفصول السوداء في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، و"حمّام الشيطان" يعالج عنف التربية الجماعية في النمسا.
- الأفلام تتميز بجمالياتها السينمائية والتصوير البصري، مقدمة تجارب فردية وجماعية معقدة، وتؤكد على أهمية الاعتراف والمواجهة للماضي العنيف.

 

مشتركٌ أساسيّ بين أفلامٍ عدّة، معروضة للمرة الأولى دولياً في المسابقة الرسمية للدورة 74 (15 ـ 25 فبراير/شباط 2024) لـ"مهرجان برلين السينمائي (برليناله)"، يتمثّل بـ"ثقل التاريخ". أي أنّ أفلاماً كهذه تختار من الماضي ما يُعتَبَر ثقلاً، أخلاقياً وثقافياً واجتماعياً، في تاريخ بلدان ومجتمعات وأفراد.

هذا غير مفاجئ. مخرجون ومخرجات كثيرون يستلّون من تاريخ بلدانهم ما يرونه مناسباً لقراءة أو أكثر، ترتبط برغبةٍ في مُصالحةٍ واغتسال، أو تُشبه راهناً، أو تتقاطع مع مسائل آنيّة، يُلجَأ إلى التاريخ لقولٍ (مبطّن، غالباً) مفاده أنّ في التاريخ مسائل عالقة، أو أنّ الاشتغال على بعضها غير كافٍ.

في المقابل، تهدف عودةٌ دائمة إلى فصلٍ واحدٍ من التاريخ إلى تذكير متكرّر بفداحة جُرمٍ مرتكَبٍ قبل أعوام، كنوعٍ من ابتزاز، أو كتأنيبٍ قاسٍ على فعلٍ يرتكبه آخر، في زمن قديم. النازية مثلٌ، و"تأنيب الضمير" مُنتِجٌ فعّال لأفلام (ولغيرها) تنبش كلّ فعلٍ، صغيرٍ أو كبير، يُذكِّر الألمان أولاً وبقية الشعوب ثانياً بجريمة أدولف هتلر وجماعته. "من هيلدا، مع الحبّ"، للألماني أندرياس دْريْزن، مثلٌ على ذلك، رغم أنّ تذكيره بجُرم نازيّ متمثّل بإعدام شيوعيين وشيوعيات، أو متعاطفين ـ متعاطفات مع الاتحاد السوفييتي. جوهر الحكاية مهمّ، إذ يُقرّ ألمانيٌّ (دْريْزن) بأنّ للنازية جرائم بحقّ أفرادٍ غير اليهود أيضاً (وإنْ يكن بعض هؤلاء يهودياً)، وهذا ضروريّ في بلدٍ خاضع لابتزاز يهودي ـ صهيوني ـ إسرائيلي خانق، والحاصل في ألمانيا حالياً، تحديداً منذ "طوفان الأقصى" (7 أكتوبر/تشرين الأول 2023)، وحرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة، دليلٌ على الخضوع الألماني (رسمياً على الأقلّ) المخيف للوبي اليهودي ـ الصهيوني ـ الإسرائيلي، مع أنّ هناك أصواتاً يهودية (وألمانية) ترفض الحرب، لكنّها غير مؤثّرة كفاية.

قصص من التاريخ تحضر في أفلامٍ، وبعض القصص مُثقلٌ بجرائم متنوّعة: "أشياء صغيرة كهذه"، للبلجيكي تيم مَيْلان ("الدب الفضّي لأفضل أداء في دور ثانٍ" للممثلة البريطانية إيميلي واتسون)، يستعيد فصولاً سوداء في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية في أيرلندا (عشرينيات القرن 19، واللاحق عليها)، معروفة بـ"مغاسل المجدلية": مصحّات عقابية مروّعة، بإدارة راهبات تابعات للكنيسة نفسها، بهدف ظاهريّ يقول بتقويم شابات "ساقطات"، أو مراهقات "منحرفات"، والعمل على "إصلاحهنّ".

أيُعتبر الفيلم إدانة متأخّرة، أمْ استعادة سينمائية لجُرمٍ تعرفه البشرية في عصور ظلاميّة قديمة؟ الإدانة غير ظاهرة بفجاجة، والاستعادة طاغية أكثر، في حكاية رجل (كليان مورفي) يعمل في تجارة الفحم، في ثمانينيات القرن 20، يكتشف صدفةً هذه الـ"مغاسل". هذا (لا إدانة فاقعة، بل استعادة سينمائية لفعلٍ ومرحلة وبيئة) يُشبه الحاصل في "حمّام الشيطان"، للنمساويين فيرونيكا فرانتز وسِفِرن فيالا (جائزة "الدبّ الفضّي لأفضل مساهمة فنية" لمارتن غيشْلاغْت، مدير التصوير النمساوي): عنف تربية جماعية يؤدّي إلى ارتكاب جرائم قتل، للخلاص من قسوة حياةٍ، تنزعان (الحياة وقسوتها) عن المرأة تحديداً كلّ حسّ إنساني ـ بشري فيها.

 

 

جمالية تصوير تنكشف في مزيج بصري رائع بين تفكيك نفسٍ بشرية، فردية وجماعية، وطبيعة غارقة في لون رماديّ، يميل إلى العتمة غالباً، إشارة إلى ليلٍ مديدٍ لامتناهٍ. أداء النمساوية آنيا بْلاغْ دور أغنس، الشخصية النسائية الأساسية، كفيلٌ بفهم مناخٍ عام، ومسارٍ حادٍ من انهيار فردٍ وخلل بيئة واجتماع، بفضل ملامح وتعابير صامتة غالباً، وحركة جسدٍ تقول أكثر من كلّ كلامٍ آخر. أغنس تتزوّج وولف (دافيد شايد) الذي تحبّ، لكنّها تكتشف، منذ الليلة الأولى، عدم قدرته على ممارسة دوره كزوج، فتبدأ رحلة في عمق جحيمٍ، تغرق فيه تدريجياً، إلى لحظة ارتكابها جريمة قتل مراهق، كي تُعدَم بقطع رأسها، بعد فشلها في الانتحار.

اختزال الحبكة غير حائلٍ دون تساؤلات جمّة، يطرحها "حمّام الشيطان"، لكنّها مترابطةٌ في سياق سينمائي متماسك ومُشوّق، وجميل رغم عنف حالة وأناس واجتماع. فالفيلم يستحقّ قراءة نقدية مستقلّة، لما فيه من تفاصيل ولقطات وأحوالٍ، تعاين أصل العنف، أو أحد أصوله، في مجتمعاتٍ تنبذ العنف راهناً، بعد تاريخٍ مليء به. فـ"حمّام الشيطان" مرتكز على وقائع موثّقة، عن نساءٍ يرتكبن جرائم قتل لتُقطع رؤوسهنّ، بعد عذابٍ غير مُحتَمل، تعشنه في مناطق نمساوية، عام 1750.

بعد 50 عاماً على ذلك (1800)، يروي "غلوريا"، للإيطالية مارغريتا فيكاريو، حكاية فتياتٍ مراهقاتٍ يعشن في "كلية القديس إغناطيوس (Sant Ignazio)". هذا معهد موسيقيّ قديم متهالك، في مكان ما قريب من "فينيسيا". الحكاية غير عنيفة، رغم تسلّطٍ يُمارَس عليهنّ، من رجال يستغلّون مواقع لهم في السلطات الكنسية والاجتماعية والسياسية والإقطاعية لمصالح مختلفة. هذا مرويّ بنَفَسٍ يقترب من الكوميديا المبطّنة، رغم أنّ مصائب عدّة تحلّ في المراهقات، مع جانبٍ أساسيّ من الموسيقى والغناء.

نماذج سينمائية قليلة، مُنتَجَة حديثاً (2024)، تقول شيئاً من تاريخٍ عنيف لشعوب وجماعات، وإن تكن الكوميديا ـ الموسيقى أسلوب مقاربةٍ في بعضها. بعض تلك النماذج، خاصة "حمّام الشيطان"، يؤكّد أنّ للجماليات السينمائية وحِرفية الاشتغال البصري، وإن يكن عددها أقلّ، حضوراً في مسابقة الـ"برليناله 2024"، إلى جانب أفلامٍ غير ملائمةٍ لها.

المساهمون