توثيق للذاكرة... الحياة قبل الإبادة وبعدها

07 ابريل 2024
أمام مسجد الفاروق في رفح، مارس 2024 (سعيد الخطيب/فرانس برس)
+ الخط -
اظهر الملخص
- حرب الإبادة التي تشنها قوات الاحتلال الإسرائيلي على غزة تجاوزت 180 يومًا، مخلفة دمارًا هائلاً ونزوح أكثر من 75% من سكان غزة، مع تدمير نحو 62% من المنازل.
- الغزيون يستخدمون الصور لتوثيق الدمار ومقاومة إبادة الذاكرة، حيث تصبح هذه الصور وسيلة لحفظ الذاكرة والتعبير عن الحياة اليومية التي تم انتهاكها.
- الصور التي يلتقطها الغزيون لمنازلهم المدمرة تكشف عن الانتهاكات الإسرائيلية وتقابل البروباغندا بتوثيق استمرار الحياة وإعادة بناء ما تدمر، مؤكدين على قوة الإرادة والصمود.

تجاوزت حرب الإبادة التي تشنها قوات الاحتلال الإسرائيلي على غزة 180 يوماً. الدمار الذي يشهده القطاع لم يعد يوصف (وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين أعلنت الجمعة أن الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة تسببت في تدمير نحو 62% من المنازل في القطاع، ولفتت إلى أن أكثر من 75% من الفلسطينيين قطاع غزة نازحون بسبب الحرب، وغالبيتهم نزحوا عدة مرات)، وهذا العجز اللغوي سببه الإبادة نفسها التي تهدد الوصف والكلام، ما حوّل الصوّر إلى وثائق تاريخيّة، لا فقط للإدانة، بل للذاكرة، وأكثرها إثارة للقشعريرة صورة الأقمار الصناعية التي تصور أحياء القطاع قبل وبعد. صور الأقمار الصناعية مهما كان مصدرها لا تلتقط "الحياة" بل تكشف الوحشية التي يمارسها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد قطاع غزّة، وتوثق لما يسمى "إبادة المنازل"، المصطلح الذي اقترحه الصحافي البريطاني باتريك وينتور، لوصف الدمار الهائل الذي تباد إثره البنية التحتية في غزة، لجعلها عصيّة على الاستقرار واستمرار الحياة.
أمام إبادة الأجساد والمنازل، يقاوم الغزيون عبر هواتفهم إبادة الذاكرة. إذ استعاد الكثيرون صور قبل الحرب وبعدها لمنازلهم وحياتهم وحميميتهم التي ينتهكها الجيش الإسرائيليّ. الناشطة الصحافية بلستيا العقاد مثلاً جمعت في منشور صوراً لغزة قبل وبعد الدمار. نشر آخرون صوراً لبيوتهم، تلك التي اعتنوا بها وأثثوها، ثم نشروا صوراً أخرى لما تبقى منها بعد تدميرها بشكل شبه كامل. الصور هنا تتجاوز قيمتها كدليل قانوني، نحو لعب دور كوسيلة لحفظ الذاكرة والاستمرار في وجه ماكينة الحرب الإسرائيليّة. هذا المحتوى حميميّ وقاسٍ في الوقت نفسه، فنحن نشهد بدقة كيف تعمل آلة القتل الإسرائيليّة، في نفس اللحظة التي نشاهد فيها كيف يواجهها الغزيون العزل، ولو بصورة ستبقى محفوظة في الذاكرة الجمعيّة، تدين القاتل بدقة ومن دون لبس.
تساهم هذه الصورة في كشف شدة انتهاك الجيش الإسرائيلي لحياة الغزيين، كون الجنود أنفسهم يبثون عبر الكاميرات الموثقة على أجسادهم صور الاقتحام والاشتباك داخل بيوت الغزيين، تلك التي حولوها إلى "ساحة معركة" في محاولة لسلب الغزيين مدنيتهم. هنا تأتي صور الغزيين أنفسهم لنفي هذه البروباغندا الصهيونية، والتأكيد أن هذه مساحة للحياة، مليئة بالذكريات والكد والفرح والخوف. صور الغزيين تقول ببساطة إن البيوت ليست متاريس.
كشف تقرير لصحيفة هآرتس أن جيش الاحتلال خلق في قطاع غزة ما يسمّى "مساحة القتل"، وهو مصطلح عسكري يشير إلى مساحة يمكن قتل كل ما فيها وتدميرها كلياً، علماً أن حدود هذه المساحة تتغير بصورة دائمة من أجل توسيع رقعة القتل. هذه المساحات تكشفت بعدما انتشرت صور لأربعة شبان غزيين عزّل قتلهم الاحتلال لمجرّد مرورهم في شارع مدمّر. هنا نحن أمام مفارقة تكشف عن طبيعة الصراع، الجيش الإسرائيلي يرسم "مساحات القتل" لإبادة الحياة والمنازل ويبث الصور من أعلى، والغزيون يوثقون من بين الخراب "مساحات الحياة" والذاكرة التي تقاوم ماكينة الموت.

بالعودة إلى التوثيق بين قبل الإبادة وبعدها، نكتشف لا فقط زيف الادعاءات الإسرائيليّة، بل أيضاً انهيار حجة "الحرب قاسية وسقوط الضحايا عادي" التي تتردد دائماً، سواء على لسان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أو أنصار إسرائيل. فنحن لسان أمام حرب، من يضرب من السماء ويقصف بالصواريخ الموجهة ويستخدم الذكاء الاصطناعيّ لم يدمّر حتى الآن سوى منازل مدنيين. نحن أمام كم هائل من الأدلة التي تكشفها صور (قبل وبعد)، ترسخ أننا أمام نية لنفي كل أشكال الحياة من قطاع غزة وتحويله بأكمله إلى "مساحة قتل". لكن، يعود الغزيون إلى حطام منازلهم، ويلتقطون الصور، ويبحثون بين الركام عما تبقى من ذكريات أو جثث، يوثقون "كل شيء"، فـ"الما بعد" ليس حطاماً، بل يقنياً باستمرار الحياة وإعادة بناء ما تدمّر.

المساهمون