"تملّي معاك" وإليانا... أصوات وأغان مستعارة

18 سبتمبر 2023
تستثمر إليانا في الشرق بصفته الرصيد الذي حظيت به بصورة طبيعية (سكوت دودلسون / Getty)
+ الخط -

ما انفكّت ابنة الـ21 عاماً، إليان مرجيّة، المعروفة فنيّاً باسم إليانا (Elyanna)، تصعد درجات الشهرة الرقمية الدرجة تلو الأخرى. الفتاة المنحدرة من مدينة الناصرة في فلسطين، والتي هاجرت إلى الولايات المتحدة أوّل سني المراهقة، اكتسحت منذ أسبوعين الإنترنت ومنصّاته بكوفر (Cover) مصّور، تُعيد من خلاله أداء أغنية عمرو دياب "تملّي معاك"، التي يعود إصدارها إلى سنة 2000، ليفوق عدد المشاهدات خلال أسبوعين، الأربعة ملايين ونصف مشاهدة.

وكما لو أن رواجها لم يكن كافياً، إذ أحدث الكوفر أثراً موجياً. ها هي مغنية البوب الرومانية إلينا أبوستولينو، واسمها الفنّي إنّا (INNA)، تُعيد أداء نسخة إليانا من "تملّي معاك" مصوَّرة كفيديو كليب، تبدو فيه وحيدة تغني عبر ميكروفون، ترفعه على "يوتيوب"، لتحصد خلال يومين قرابة المليون ونصف مشاهدة.

لم يقتصر إصدار إليانا على إعادة أداء الأغنية، كما هي معروفة لدى عُشّاق البوب المصري في أرجاء المنطقة الناطقة بالعربية، بل جمعتها بأغنية اسمها Callin U، تقترب من نمط "القدود" كما يُسمّى في الشام، إذ يُستعار اللحن، فيما تُستبدل الكلمات العربية بأخرى إنكليزية. تعود الأغنية إلى سنة 2013، وهي من إصدار فرقة دنماركية أسسها شُبان من أصول مهاجرة عربية ولاتينية تحت اسم Outlandish.

بهذا، ينتهي المُنتج الغنائي إلى أشبه بكولّاج ثنائي الاسم "تملّي معاك Callin U"، فيه يتلاصق كلٌّ من النص العربي الأصلي، الذي كتبه المؤلف المصري أحمد علي موسي، والنص باللغة الإنكليزية الذي وضعه أعضاء فرقة Outlandish، في حين يبقى اللحن مثلما غنّاه دياب، وكما نظمه الملحن المصري شريف تاج.

تعود ظاهرة الكوفر في العصر الحديث إلى أول القرن العشرين. فقد شاع بين موسيقيّي الجاز إعادة تقديم ألحان رائجة، سواءً من مقطوعات أو أغان، بعرضها ثيمة ثم التناوب عليها ارتجالاً بين أعضاء الفريق الموسيقي. في الخمسينيات، ساهمت أغاني الكوفر إلى حدٍ بعيد في ازدياد شهرة أيقونة البوب إلفيس بريسلي (1935 - 1977)، منها أغنية "توتي فروتي" لليتل ريتشارد، و"ماي ويه" لفرانك سيناترا.

استمر اللجوء إلى الكوفر خلال الستينيات والسبعينيات، إذ أعاد عازف الغيتار الكهربائي جيمي هندركس (1942 - 1970) تقديم أغنية بوب ديلان الشهيرة All Along in The Watch Tower، مثلما أعادت مغنية الجاز والسول أريثا فرانكلين (1942 - 2018) صياغة أغنية Respect لأوتيس ريدّنغ. أما خلال التسعينيات فشكّل الكوفر مشروعاً فنيّاً أصيلاً متميّزاً بالنسبة إلى المغنية الأيرلندية شينيد أوكونور (1966 - 2023) من خلال أغان كـSacrifice لإلتون جون وNothing Compares 2U لبرنس.

أما اليوم، فأصبحت إعادة تقديم الأغاني عادة رائجة، أتخمت المنصّات الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي. استلهاماً لبرامج اكتشاف المواهب، فيها يُعيد الهواة غناء أغاني النجوم، أخذ المراهقون، ممن لا يحسنون كتابة أغانيهم بأنفسهم، ولا يملكون القدرة على تكليف من يكتبها لهم، يُصوّرون الكوفر من غرف نومهم أو غرف الجلوس. منهم من حالفه الحظ فحقق شهرة واسعة، غالباً ما تُقيّم بحجم المشاهدات والمتابعات، ومنهم من غرق في عباب الإنترنت، فلم يعد له أثر يذكر.

من بين أولئك ممن حالفهم الحظ، كانت إليانا؛ إذ جلبت عليها كوفراتها الأُولى أكثر من 300 ألف مُتابع على "إنستغرام". إلى جانب الوافر من الحظ، تُحسن الشابة الغناء على طراز البوب المعاصر، ناهيك عن جاذبية تستجيب لذائقة جيلها، وملكة استعراضية أهّلتها لتستثمر شهرتها، في شق مسيرة مهنية تجاوزت الإنترنت، أفضت إلى توقيع عقود إنتاجية مع شركات كبرى كـ"يونيفرسال" و"ريبابليك ريكوردز".

هنا، تبدو إليانا كمن يسعى إلى إحداث نسخة أيليشيّة، نسبة إلى نجمة البوب الأميركية الشابة بيلي أيليش، وذلك عبر تركيب شخصية متفرّدة، توحي بغرابة الأطوار، سواءً من ناحية الأداء الغنائي أو الإيماءات الجسدية، بالإضافة إلى الظهور بمظهر الوحيد مع ذاته (Solipsistic)؛ فإن صدرت لها أغانٍ شاركها فيها مغنون آخرون، كمغني الهيب هوب مساري في أغنية "أنا لحالي"، تميل الشخصية الفنية التي تُجسدها غالباً إلى التموضع ذاتياً إزاء كل من المظهر والخطاب. الأمر الذي يستجيب لمزاج جيل "تيك توك" و"إنستغرام".

بغية التمايز عن أيليش، تستثمر إليانا، وربما من يوجّهها خلف الكواليس من منتجين ومرشدين فنيين، في الشرق، بصفته الرصيد الذي حظيت به بصورة طبيعية، بحكم النشأة والبيئة الثقافية. فتسمعها أولاً تغنّي باللغة العربية، وإن بلكنة أجنبية فريدة في معظم الأحيان. إضافة إلى ذلك، وخلافاً لأيليش التي لطالما تبنّت في ظهورها نمطاً صبيانياً ذا صبغة نسوية، فإنها تُضاعف من النمط الأكثر سطحية للأنوثة، المتمسّك بسلوكيات الإغراء الجنسي، المرتبطة بالتنميطات الاستشراقية، وإن بغلاف عصري مواكب.

إلا أن أكثر ما يجمع كل من إليانا وفرقة Outlandish وأغنية "تملّي معاك" لعمرو دياب بوصفها عيّنة تاريخية للاستحضار، هو الظاهرة بحد ذاتها.

ليست ظاهرة الكوفر بعمومها، والمتمثلة بإعادة تقديم أغنية معروفة، سواءً بكلماتها الأصلية أو جعلها "قدّاً" لنصوص أخرى بلغات مختلفة، وإنما تلك الظاهرة الأكثر خصوصية، المتمثلة بنشوء لون بوب معولم على مدى العقد الماضي، بات يتوجّه للجاليات العربية والشرق أوسطية المنتشرة حول العالم، مستفيداً من جماهير الموطن الأصلي كسوقٍ مكمّلة.

ما يُميّز هذا اللون من الناحيتين الموسيقية والثقافية، هو انضواؤه النسبي تحت مظلة الهيب هوب والسول الحديث، والمعروف بالراب الغنائي (lyrical rap) ، حيث يسود الغناء على نظم الراب، وأحياناً ينوب عنه ليستحيل شكلاً من السول المينيمالي.

بدوره، يُشير هذا التموضع الشكلي إلى تموضع آخر، تمثيلي اجتماعي، كأني بالجاليات العربية والشرق أوسطية في الغرب ترى ذاتها في سلة ما تمخّض يوماً عن صوت الثقافة المضادة، والأقليات المهمشّة.

المساهمون