"تطوّر طيفي" لرافاييل تورال... تصوّف صوتي إلكتروني

28 ابريل 2024
رافاييل تورال (يساراً) في عرض عام 2011 (ديدييه آلار/ Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- "تطوّر طيفي" لرافاييل تورال يعتبر تجربة فريدة في الموسيقى الإلكترونية، يركز على خلق طاقة روحية تربط بين الكون، الطبيعة، والإنسان من خلال تراك موسيقي يمتد لـ47 دقيقة.
- الألبوم يستخدم السنثسايزر والغيتار الكهربائي لتوليد أصوات تحاكي البيئة الطبيعية وتعكس الجدل بين الثابت والمتحول، مستلهمًا من الفلسفة الجدلية ومصطلحات الموسيقى الإلكترونية.
- يتجاوز مفهوم موسيقى الدرون بتقديم دفق هارموني مستمر يضفي بُعدًا سرديًا وعاطفيًا، مؤكدًا على القوة التعبيرية للموسيقى الإلكترونية كأداة للتعبير الإنساني.

يُثبت ألبوم "تطوّر طيفي" لرافاييل تورال للأذن أن الموسيقى الإلكترونية قادرة على توليد الطاقة الروحية في كلّ من عمليّتي الإبداع والاستماع، وحمل المعاني الأشد عمقاً والأكثر رمزية حول الكون والطبيعة والإنسان، فضلاً عن توفيرها، في تلك المحصلة، مختبراً حيوياً خلّاقاً للسبر والابتكار. 

بتفحّص الشكل، يحتوي ألبوم Spectral Evolution على تراك وحيد مُتّصل يمتد بطول 47 دقيقة. عند تأمّل المضمون، يُعيد المؤلِّف عبر الوسيط الموسيقى الإلكترونية إنتاج العلاقة الأزلية بين الثابت والمتحول، ليس من وجهة النظر الأدونيسية، نسبة إلى الدراسة النقدية الحداثوية المعروفة إزاء الثقافة الإسلامية، للشاعر أدونيس، والتي ترصد ثبات الثابت وتحوّل المتحوّل، وإنما من وجهة الخبرويّة الذوقيّة في التجربة الصوفية، التي تُبصِر متحوّلاً في كل ثابت وثابتاً في كل متحوّل.
 
تُسمع خيمياء الأصوات لدى تورال كما لو أنها تُحدِث من داخل استوديو التسجيل وعبر مفاتيح السنثسايزر (Synthesizer) وأزرار محّولاته مادةً موسيقيةً برزخيّةً، تنبثق عنها، كما وتنصهر فيها، جميع العناصر المكوِّنة للعمل الفني ضمن وحدة تشكيلية، أو تركيبٍ صوتي (Synthesis)، يحتضن الأضّاد وينفصل عنها في آن، تجاوزاً للوجهتين الزمنية والمكانية، في تقاطعٍ تأويلي بين مفردات الصيرورة الجدلية، كما تصورها الفيلسوف الألماني هيغل، وبين معجم المصطلحات التقنية لصناعة الموسيقى الإلكترونية.

ذلك التركيب، أو تلك المادة الموسيقية البرزخية قوامها الكهرباء. ومن هذه الأخيرة، تنشأ على مدار المقطوعة كل المكونات وتتجلّى للأذن جميع العناصر. المقدمة ضربٌ على أوتار الغيتار الكهربائي، حيث ستُجسّد تدخّلات تلك الآلة الإلكترو-أكوستية في غير إحداثية زمنية صورةَ الإنسان، أو بالأحرى صوته، بحكم أنها يعزفها عازف مؤدٍّ، هو المؤلف نفسه، وستلعب أيضاً دوراً بنيويّاً، بتأمينها قُدماً صلةً للوصل ونقطةً تحديد الموقع، كأني بالإنسان، أو الفنان، يُشكّل المركز والمرجعية.
 
تنضم إلى الغيتار الكهربائي في ما يُشبه التقاسيم الهارمونية، تجلّيات إلكترونية لطيور وعصافير، تُسمع كما لو أنها استحضارٌ صوتيٌّ من استشعار موجاتٍ كهرومغناطيسية. أي نعم، قد تم توليد الأصوات في بيئة صناعية في الأستوديو وبواسطات المركّبات، إلا أن تشكيلها جرى وفق أنماطٍ ارتجالية مدروسة، إذ يراد لها تكون عشوائية، فتُحاكي الأصوات الكهربائية أصواتَ البيئة الطبيعية.

عند عتبة الدقيقة والنصف تقريباً، ينبلج من صميم الفراغ السمعي دفقٌ نغمي هارموني، مُنسجم ومُتّصل، سيستمر من دون انقطاع حتى نهاية العمل. أشبه بفيضٍ نوراني يتجلّى من خلال الصوت، يستمدّ استمراره من تصميمه إلكترونياً على نسق آلة أورغن، التي تعتمد في تصويتها على حقن أنابيبَ عملاقة بالهواء، يجري تنفيسها فور الضغط على مفتاح مُعيّن بغية عزف نغمة معيّنة. لذا، يتوفّر لصوت الأورغن، مجازياً، امتدادٌ لانهائيٌ. لهذا، تُعد تلك الآلة، ذات الأصول الكنسيّة، وسيلةً موسيقية للتعبير عن القدسي، الثابت والأزلي.

موسيقى
التحديثات الحية

إلا أن هذا الفيض الهارموني، وإن ظل ثابتاً ومحوريّاً بوصفه عنصراً تشكيليّاً، أي "موتيڤ"، يبقى مع ذلك في تحوّلٍ مستمر، كجريان ماء النهر. تنعكس تحوّلاته أولاً، من خلال الأطوار النغمية التي يمر بها، إذ تطرأ عليه باستمرار انتقالات هارمونية شجيّة ومعقّدة في آن، وثانياً، عبر تواتر التبدّل في طبيعته اللونية، أيّ طيف الأصوات الداخلة في تركيبه؛ لعله انطلاقاً من هذا، قد اختير "تطوّر طيفي" اسماً للألبوم، فالطيفية (Spectral) مدرسةٌ موسيقية فرنسية ما بعد حداثية، نشأت في فرنسا في سبعينيات القرن الماضي، قاربت الصوت كتمثيلٍ لونيٍ، أما كلمة تطوّر (Evolution) فلعلها تشير إلى جملة التحوّلات الهارمونية المستمرة التي تُحاكي، رمزياً، سُنة التطّور الطبيعية بوجهيها الثابت والمتحول.
   
في الظاهر، يمكن تصنيف العمل ضمن تيار أخذ يشيع في العشريّة الثانية من القرن الحالي، خصوصاً بين أوساط الموسيقى الإلكترونية، يُعرف باسم موسيقى درون (Drone)، يعتمد الدفق الصوتي المستمر اللامتغيّر والشكل المُرسل المفتوح حتى على اللاشكل في كثير الأحيان، والممتد على فترة زمنية متّصلة وطويلة نسبياً، فيتمايز بذلك عن القوالب الموسيقية التقليدية المعروفة منذ العصور الكلاسيكية وما تحوّر عنها، تلك الخطيّة الدرامية والقائمة على حلقات، أو حركات، تحكمها آليات التفاعل بين العناصر المتعارضة، تُسيّرها وجهة تصعيدية نحو حبكة تنتهي بانحلال ذي مفعول تطهيري (Catharsis). في حين يمكن وصف "موسيقى درون" بمينيمالية خبرويّة (Experiential Minimalism) حيث الغاية هي غمْسُ المستمع في تجربة سمعية سكونية، أقرب إلى جلسة التأمل كما هي معروفة في الشرق.

أما في باطنه؛ فإن "تطوّر طيفي" يتجاوز كونه دفقاً موسيقياً مرسلاً على مدى زمني له أن ينتهي بمجرد انقضاء وقت الألبوم، إذ يكشف العمل للأذن المنصتة عن حلقات مستترة تتخلّل الدفق من دون أن تقطعه أو تجزئه، وعن أحداث تطرأ، فتمد النسق بعنصر السرديّة، علاوة على تنوّع التراكيب الصوتية التي صيغت بدقة وعناية، من أجل مؤلّفٍ موسيقي متّسق ومثير، وفي نفس الوقت، مُحتفظ بسمتيّ البساطة والنضارة، ما يعمّق من أثره العاطفي في سرده الصوتي لقصة الخلق.
 
بذلك، إنما يدلّ على الكمون الجمالي الذي من المحتمل للموسيقى الإلكترونية أن تتوفّر عليه، وألا تكتفي بالوقوف عند حدود إنتاج الصوت المجرّد أو المُعلّب أو إصدار الضجيج المحض؛ هي إذاً، مثلها مثل الموسيقى الأكوستية وسائر وسائط التعبير الإنساني السمعية كما البصرية، وسيلة وأداة، ترتبط قوّة تأثيرها بمدى حسّ ورؤية ومَلكة من يستخدمها؛ ها هو رافاييل تورال (Rafael Toral)، ومن خلال صورة شعرية موسيقية آسرة قوامها الكهرباء، قد قدّم في مؤلّفه الأخير الصوت الإلكتروني رمزاً للماهية البدئية للوجود، التي عن فيضها السرمدي تتجلّى الطبيعة ويتجلّى الإنسان وسائر الموجودات.

المساهمون