مثّلت موسيقى الريف الأميركية، "كونتري" (Country) في مجملها البيض الأميركيين، لكونها استعادةً لموروث رعاة البقر من المستوطنين الأوروبيين الأوائل. ولم يشتهر فنانو كونتري من غير البيض إلا في ما ندر. مقابلها، تتموضع موسيقى "آر أند بي" (R&B) قِرانُ الحرف الأول من كلمة (Rhythm) وتعني إيقاعاً، والحرف الأول من بلوز. بها، يتمثّل الأميركيون سود البشرة، إذ تعود جذورها إلى موروث الأفارقة حين استُقدموا إلى القارة الجديدة كعبيد، ومن R&B انبثقت أوّل الثمانينيات موسيقى الراب (Rap) أو (Hip hop). ما انفكّت تلك الثنائية الهوياتيّة الموسيقية ترسم سمعياً مظاهر الحياة الثقافية الأميركية. حتى إنها أمست أخيراً "الموسيقى المُصاحبة" للحياة السياسية.
غالباً ما تُسمع موسيقى "الكونتري" تعلو من مكبرات الصوت، ويُدعى نجومها لإحياء الحفلات الجماهيرية في مستهل المهرجانات الانتخابية التي يعقدها مرشحو الحزب الجمهوري، ذي القاعدة العريضة المتجذّرة في المجتمع الريفي في الداخل الأميركي أبيض البشرة. على الجهة الأخرى، أصبحت أغاني R&B والراب أهازيج ثوريّة لأنصار الحزب الديمقراطي في الأطراف الشاطئية ذات التنوع العرقي الأشد بروزاً، حيث بات يطرح نفسه أخيراً، لاعتبارات ديمغرافية وسياسية - اقتصادية حزبَ الولايات المتحدة الملوّنة والكوزموبوليتية.
أما نجم موسيقى الكونتري المعروف لوك كومبز (Luke Combs)، ابن الثالثة والثلاثين عاماً، فقد بادر هذا العام إلى دعوة المغنية الأميركية السوداء المرموقة تريسي تشابمان (Tracy Chapman) ذات الـ59 عاماً، ليقفا معاً وسط مسرح قاعة حفل "غرامي" لتوزيع الجوائز الموسيقية، الذي يُعدّ بمثابة حفل أوسكار للأغاني، ليتشاركا في غناء "سيارة سريعة" (Fast Car)، وهي من بين أغاني تشابمان الأكثر شهرة، وتعود لسنة 1988.
إلا أن القصد من المبادرة لا يبدو تكريم صاحبة الأغنية فقط، بل أيضاً توجيه رسالة سياسية تناشد الوحدة والتلاقي بين مكوّنات المُجتمع الأميركي، عبر مشهد بصري ومغنى سمعي، متعدد الهويّات العرقية والفنية. فتسمع الصحف الأميركية تهتف للعرض بعناوين برّاقة مجيّشة للمشاعر.
تكتب صحيفة ذا نيويورك تايمز بالخط العريض: "تريسي تشابمان ولوك كومبز قدّما لأميركا هدية نادرة، ألا وهي الانسجام". وفي "أميركا اليوم"، يبوح الكاتب جيم سيرجنت لقرّائه بأن "تريسي تشابمان ولوك كومبز جعلا عينيّ تدمعان". أما شبكة فوكس نيوز المحسوبة على إعلام الحزب الجمهوري، وفي مقال منشور على صفحتها في الإنترنت، فقد اكتفت بذكر الخبر بعيداً عن فرط العواطف، معنونةً "أداء كلّ من تريسي تشابمان ولوك كومبز استدعى من الحضور التصفيق وقوفاً".
لعل السبب وراء الاحتفاء بأداء كلا النجمين معاً، سواء في أثناء حفل غرامي أو في أعقابه، أن الـ 2024 سنة انتخابية مفتاحية في الولايات المتحدة الأميركية. مع ازدياد احتمال المواجهة بين الرئيس الحالي جو بايدن مرشّحاً للحزب الديمقراطي، والرئيس الأسبق دونالد ترامب، مُتصدّراً مُحتملاً لسباق الترشّح للرئاسة عن الحزب الجمهوري، بات يخشى الأميركيون من ازدياد حدّة الاستقطاب السياسي والانقسام المجتمعي بين أنصار كلّ من الفريقين، وعودة جمر ما يُعرف بـ"حرب الثقافات" (Culture wars) من جديد، كما كانت الحال خلال فترة رئاسة ترامب.
ثمة أيضاً سببٌ معطوفٌ على أجواء حرب الثقافات، وإن ارتبط بالمغني الشاب شخصياً. كان الأخير قد ضمّن نسخته الخاصة من أغنية تشابمان "سيارة سريعة"، أو ما يصطلح عليه موسيقياً "كوڤر" (Cover) ضمن ألبومه الأخير بعنوان "التقدم في السن" (Gettin Old) الذي صدر في شهر مارس/آذار الماضي.
كانت المفاجأة أن اكتسحت الأغنية منصّات الستريمينغ ومواقع التواصل الاجتماعي، محقّقةً حجم تفاعلٍ فاق ما حظيت به تراكات الأغنيات التي كتبها كومبز بنفسه، ما حداه وطاقم منتجيه ومسوّقيه إلى عرضها عبر الإذاعات المتخصّصة ببثّ موسيقى الكونتري في أرجاء البلاد. لتصعد، خلال مدة لم تتعدّ الأربعة أشهر، إلى المرتبة الأولى على لائحة تقييم البيلبورد لفئة "الكونتري"، والثالثة من بين المئة أغنية الأكثر استماعاً من بين الفئات كافة.
سرعان ما حرّك نجاح الأغنية "الكوڤر" سجال الهويّاتية السياسية المستعر أصلاً، حول ما إذا كانت تشابمان، على حدّ تعبير مديرة منظمة موسيقى الكونتري السوداء (Black Opry) "لتحظى بأيّ تمثيل عبر أثير إذاعات الكونتري لو أنها غنّت أغنيتها بنفسها من دون وسيط غنائي أبيض البشرة". هي المرأة، ليست السوداء فقط، بل المثلية أيضاً، ما يجعلها قضية نموذجية بالنسبة إلى دعاة مبدأ "الإنصاف" (Equity) ممن هم على أقصى إلى وسط اليسار من الحزب الديمقراطي، والذين يعتقدون بأن المجتمع الأميركي قائم على تمييز عنصري ممنهج ومتجذّر في كلّ من المؤسسات ومظاهر الحياة العامة، بما فيها المظهر الفنّي.
كانت إيميلي يار قد كتبت في صحيفة ذا واشنطن بوست العام الماضي مقالة عن أغنية تشابمان بصوت كومبز، قاربتها من منظور غياب الإنصاف، حين تحدّثت بالأرقام عن معاناة الإنتاج الغنائي لفنانين سود البشرة ومثليين من ضعف التمثيل ضمن لون الكونتري، ما جعل لصدى عودة "فاست كار" إلى الضوء، وقع المفاجأة الكبيرة والمفرحة على تشابمان، التي ابتعدت عن المشهد الغنائي لسنوات عديدة.
ضمن هذا السياق، تنطلق مبادرة نجم الكونتري الصاعد إزاء نجمة الكونتري السابقة لاعتلاء مسرح غرامي معاً، من رغبة شخصية أولاً بمشاركة صاحبة الأغنية الأيقونية الأقرب إلى قلبه، على حد تعبيره، والتي أدمن الاستماع إليها منذ حين كان فتى، بفضلٍ من أبيه وحتى قبل أن يُفكّر في احتراف الموسيقى.
من جهة أخرى، لعلّها أيضاً رغبةٌ لديه بتلطيف الأجواء ضمن الساحة الثقافية، أو ربما تلوينها، إثر السجال الذي ترافق مع نجاح "كوڤر" (Fast Car)؛ إذ إن مصلحة أيّ فنان جماهيري تقتضي قبل كل شيء توسيع قاعدة جمهوره، ليعبر به خطوط التماس الفاصلة ما بين الأحزاب والهويّات والطبقات والمعتقدات المستقطبة لشرائح المجتمع. لذا، قد شكل حدث غرامي فرصة سانحة أمام لوك كومبز، للبعث برسالة مضمونها أن لون موسيقى الكونتري ليس أبيض، بل أسود أيضاً وبألوان قوس قزح. يبقى السؤال عمّا إن كان مضمون الرسالة سيسري على سائر الألوان.