تحقيقات متنوّعة في فيلمين: الحبكة قبل الشخصية

31 اغسطس 2020
آدم درايفر: تحقيقات مجنونة من أجل أميركا (غاريث كاتّرمول/Getty)
+ الخط -

عندما اعتمدت أجهزة الاستخبارات الأميركية، بعد تفجيرات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، أساليب تحقيق فاشلة مع الإرهابيين في سجون سرّية، برز طبيب يتوسّل منهجاً جديداً في هذا، كما في "التقرير" (2019) لسكوت زبرونس، الذي أغضب رجال تلك الأجهزة، فشكّكوا في قدرات من وصفوه بالمهرّج، وتحدّوه: هل حقّقت سابقاً مع إرهابي؟ هل تتحدّث اللغة العربية؟ هل تعرف "تنظيم القاعدة"؟ هل استجوبت أحداً في السابق؟ أجاب الطبيب بثقة وسخرية: أبداً. كيف هذا؟ أجاب: "الإرهابيّ إنسانٌ، ومعرفة اللغة التي يتكلّمها ليست ضرورية".

يشتغل الطبيب المحقِّق على الجسد وعلاماته. لديه منهج جديد: موسيقى مرتفعة. عيون معصوبة. منع النوم. حبس انفرادي طويل الأمد. تطبيق تجارب "العجز المكتسب" المُجرّبة على الكلاب. تعريض المعتَقَل لضوء شديد. حشرات مقرفة. ماء بارد. وقوف لوقت طويل. احتجاز في مكان ضيق. إيهام بالغرق. أفعالٌ تقهر البشر جميعهم، بغضّ النظر عن لغاتهم ودياناتهم. اقتنع محقّقو الاستخبارات أنّ المهرّج بارع في خلق الجحيم للمعتقلين، بأساليبه الـ"بافلوفية" الجهنمية في سلب الإحساس بالسيطرة.

عندما جاء الطبيب النفسيّ المجنون، لم يعد التحقيق عقلانياً وقانونياً. لماذا؟ لأنّ الطبيب النفسي داهية، يشتغل على الغريزة، وعلى الجهاز العصبي. يشتغل وفقاً لقاعدة بسيطة: "الناس المرهقون يفصِحون عن الحقيقة". في "هوس سرّي" (2019) لبيتر سيلفان، يُنقِّب محقّق أفروأميركي حزين عن أسباب صدمة عروس لم يُسْعد بها زوجها. تبذل العروس جهداً لتتعرّف عليه. هذا يُعمّق الأزمة النفسية للمحقّق. تُقدَّم هذه المعطيات في أقلّ من ربع ساعة، بعد بداية الفيلم. ما الذي سيجري انطلاقاً من هنا؟ للإجابة عن السؤال، ينفتح السيناريو على آفاق جديدة. الدافع للتحقيق كامنٌ في الشكّ بالوغد. تحقيق مزدوج، نفسي وبوليسي، مكتوب بسرعة. تبحث العروس في ذاكرتها المفقودة عن ماضيها لتفهم حاضرها بعد الحادثة. يبحث المحقّق بشكٍّ في الحادثة، التي يُفترض بها أنْ تكون جريمة مُدبّرة.

 

 

نقل الوغد العروس إلى مكان معزول، ليسيطر عليها. يتوهّم أنّ بإمكانه أنْ يقمع ويغتصب ويسيطر على شابّة متعلّمة ومتفوّقة ومستقلّة اقتصادياً، وواثقة من نفسها. يقف المحقّق ليفحص "الحالة"، فيلاحظ أنّ للعروس ماضياً تعليمياً مجيداً. يستنتج أجوبة تفيد بأنّ زوجها الحالي لا يلائمها. يفحص الصُوَر، ويصوغ منها فرضيات تقود خطواته في المراحل اللاحقة، ليكتشف الحبيب الحقيقي. يكتشف المحقّق معلومة جديدة عن المجرم، يعرفها هو والمتفرّج فقط، بينما لا يعرفها المجرم. أيّ متعة أنْ يشعر المتفرّج بأنّه يعرف أكثر من المجرم.

في "هوس سرّي"، المجرم مضطرب نفسياً والمحقّق عاقل، بينما يبدو المحقّقون في "التقرير" مرضى، ويتعاملون مع إرهابيين أعنف وأكثر مرضاً.

في "التقرير" تحقيقان: علنيّ، يطلبه مجلس الشيوخ بخصوص تحقيق سري أنجزته المخابرات باسم "برنامج الاحتجاز والاستجواب"، المُسبِّب للألم بهدف الحصول على المعلومات، ومحاربة الإرهاب. يقود دانييل جونز (آدام درايفر) تحقيقاً موثّقاً للغاية عن خروقات الاستخبارات الأميركية. لكنْ، بعد تحرير التقرير، تُطمَس أسماء مسؤولين وبلدان فيها سجونٌ سرّية لتشجيع الإفلات من العقاب. يعكس "جينريك" النهاية فكرة الفيلم بشكل رفيع.

في "التقرير"، يكتشف المحقّق أساليب تعذيب مُنِحت أسماء أخرى تمويهاً. هذا تعذيب ذو منهج علمي نفسي، مسموح به ضد أناسٍ لا يؤمنون بقيم الحداثة الغربية. المهم ألاّ تخسر أجهزة الاستخبارات ضد الإرهابيين مرة أخرى. وبما أنّ بن لادن "ربما" قُتل، فكلّ التحقيقات سليمة. الغاية تُبرّر الوسيلة.

المقارنة بين الفيلمين تُظهر أنّه في كلّ أفلام التحقيق، تُعطى الأسبقية للحبكة (متوالية الأحداث) على حساب رسم الشخصية. كلّ توقّفٍ لتعريف الشخصية يُضرّ بإيقاع الأحداث. كلّ تحقيق في السلوكات والجرائم وردود الفعل، تحليلٌ لشخصية صاحب السلوك. هكذا تستثمر الكاميرا ثمار المدرسة السلوكية في علم الاجتماع.

 

 

يضمن تصويرُ الحبكة السلوكية دوام شكّ المتفرّج طيلة الفيلم. كيف؟ تدريجياً، تُكشف المعلومات التي يحصل عليها عملاء الاستخبارات من المراقبة بواسطة كاميرات أو هواتف، أو تسجيل صوت، أو تقصّي أثر، أو كشف بصمات، أو استجواب حرّاس ونُدل لتنويع مصادر المعلومة، ثمّ مقارنة أدوات الجريمة وتحليل الحمض النووي الذي تُجريه الشرطة العلمية لإثبات الجريمة أو البراءة. وتأكيداً على أهمية المعلومات، تتضمّن حوارات أفلام التشويق جملاً قصيرة، فيها أرقام ومعطيات وتواريخ وأدلّة وأدلّة مُضادة. لا مكان للجمل الإنشائية.

يركّز التحقيق البوليسي على ما يجمع البشر، بغضّ النظر عن لغاتهم وأديانهم. التحقيق، البوليسي أو الصحافي أو الطبي، أرقى أشكال البحث في حالة محدّدة، باستخدام ما تحصل البشرية عليه من مناهج بحث، لتجنّب الخطأ وإدراك الحقيقة. كلّ بحثٍ لا ينطلق من حالة محدّدة يظلّ مجرّد ثرثرة.

ما هي وجهة النظر التي يُدرك بها المتفرّج الأشياء؟ حين يصل المحقّق والكاميرا إلى موقع الجريمة، لا يعرفان شيئاً. هكذا يُعتَمد منظور كاميرا تجهل ثم تكتشف. تتقدّم معرفة المحقّق والمتفرج بالوتيرة نفسها، كي لا يفقده في رحلة البحث. لذا، تُستَثْمَر المعرفة الأنتروبولوجية بالإنسان. هذا استعمله المحلّل النفسيّ لإرهاق الإرهابيين المعتقلين. يعيش المتفرّج تجربة المحقّق الذي يُفاجَأ، ويتساءل في كلّ مرحلة: "ماذا لدينا هنا"؟ لدينا تقرير يدين الاستخبارات في عهد باراك أوباما بسبب أفعال جرت في عهد بوش جونيور. لكن، ماذا لو نشر التقرير؟ الجواب: سيتسبّب في ألا يصل رئيس ديمقراطي إلى البيت الأبيض لـ20 عاماً مقبلاً. على أساس هذا الافتراض، سيفوز دونالد ترامب ثانيةً، وزوجته بولاية ثالثة.

الفنّ صراع في ميدان، لا مجرّد لقطة في غرفة.

المساهمون