تاريخ البشرية... اختصار فجر الإنسان في كُتب "الأكثر مبيعاً"

02 نوفمبر 2021
يمكننا اكتشاف هذا "التاريخ البديل" في بعض ألعاب الفيديو (Getty)
+ الخط -

لطالما شغل موضوع "تاريخ البشريّة" العاملين في القطاعات العلمية والفنية، على حد سواء، لنرى أنفسنا دائماً أمام متخيّلات تحاول إعادة النظر في "لحظة البداية"، ثم تقديم قراءة مختلفة لتطورنا كبشر وكائنات عاقلة، في محاولة لتحرير التاريخ من سطوته ذاتها، ومن القوى الأخرى التي تؤثر على كتابته وتدوينه، وكيفية إدراكنا لمكاننا ضمنه. هذه "القراءة" تحولت إلى موضة، وأصبحت كتب الـ"بيست سيلر" تتناول تاريخ البشر كموضوع للثقافة الشعبية، ودعوة لإعادة التفكير، لا العلمي، بل ذاك المشابه لكتب تطوير الذات، والهدف منها اكتشاف فرادتنا أولاً كبشر، ومحاولة التأكيد على تميّزنا عبر قراءة بديلة. وهذا ما يتضح في كتاب "العقلاء: تاريخ مختصر للنوع البشري"، ليوفال نواه هراري، الذي نال شهرة عالميّة بسبب كتابه هذا. والآن، نرى أنفسنا أمام كتاب يندرج تحت ذات النوع، لديفيد غيربير بعنوان "فجر كل شيء: تاريخ جديد للبشريّة".
لا نحاول هنا تقديم قراءة نقدية للكتابين أو المقارنة، أو المقاربة، بينهما، لكن ما يهمنا هو الهالة الإعلاميّة التي تحيط بهذا النوع من الكتب، التي تبدو دائماً وكأنها على وشك تقديم الحل الأخير لكل معضلات الكون، وكشف "سوء" القراءة الذي كنا نمارسه سابقاً، حين ننظر إلى أنفسنا في المرآة وتاريخنا كبشر، أو على العكس، تتبنّى فرضيةً تفتح باب المخيلة، أكثر منه باب "العلم".
ما يثير الاهتمام، أيضاً، في هذه "التواريخ"، هو اعتمادها نظام الحبكة؛ أي أن التاريخ والقوى الموجودة داخله مشوّقان، يحويان اكتشافات وزلّات. وهذا ما يتضح بأن تاريخ 30 ألف عام من وجود البشر، يمكن تدوينه في كتاب، ومختصر. وهنا نكتشف كيف يتحول التاريخ إلى "ثقافة شعبيّة"؛ إذ يستفاد من الاكتشافات الأثرية، تلك التي لا نسمع عنها سوى في أخبار مختصرة في نهاية الصحف، لتوظف كأساس لإعادة التفكير في كل ما حصل بعدها. يبدو الأمر كما لو أنّه أشبه بكولاج، يتم إعادة تجميع عدد من الحكايات فيه، كي نقول في نهاية الأمر: "أها، لهذا السبب نحن نعيش بهذا الشكل".
ما يهمنا، نحن مستهلكي الشاشات وكل ما يبث عليها، أن هذه التواريخ لا تتناول الانقلاب الأنطولوجي الذي شهده التاريخ، والذي يتمثل بالإنترنت، والقدرة على التواصل الآني بين "كل" أنحاء الأرض، فضلاً عن اقتصاد المعلومات، وإتاحتها للجميع، ورأس المال الناتج عنها، تلك الشؤون التي ما زال الخيال العلمي هو السباق في الإشارة إليها واكتشافها، محولاً لحظة البداية، بحيث لا تتمثل باكتشاف الزراعة، بل بإرسال أو إشارة لاسلكيّة واستقبالها، فضلاً عن لحظة الانفجار النووي، التي تبشرنا الآن بنهاية "غير طبيعيّة"، ما بعد الانقراض فيها مختلف عن ذاك الذي عرفه تاريخ البشرية.
هذا التاريخ البديل، الذي يعتمد البداية بوصفها لحظة نووية أو تواصلية، نكتشفه في ألعاب الفيديو، مثل Fall out 4، إذ نختبر فيها العالم بعد الكارثة النووية: عالم يحوي اتصالات، وتكنولوجيا بسيطة لكن متقدمة. ذات الأمر في المسلسلات، كـ "كربون معدل"؛ إذ إن نهاية العالم تحوي تكنولوجيا مختلفة عن تلك التي تقدمها التوقعات عن نهاية العالم، في حال كانت البداية هي لحظة اكتشاف الزراعة، أي ما بعد العالم النووي، لا يحوي أرضاً صالحة للزراعة، وفيه كائنات لا تنتمي إلى البشر، لكنها ذات خصائص إنسانيّة، الشأن الذي لا يمكن توقعه في النهايات التقليديّة.

لا نعلم إن كانت التواريخ البديلة موضة جديدة، كحالة موضة الجرائم الفنية التي افتتحها دان براون، أو السير المتخيلة التي افتتحها أمين معلوف، أم هي فعلاً قطاع علمي ومعرفي جديد سنلمس نتائجه الآنية قريباً. وسبب تساؤلنا هذا هو وصول هذه الكتب إلى قائمة أفضل المبيعات، المساحة التي تثير الشكوك دوماً حول ما يتداول فيها ومدى "جديته"، وقدرته العلمية الحقيقية.

المساهمون