لعل الموسيقى لم تكن، لو لم يكن الحب. في دراسة أجراها سنة 2000 بعنوان "أغاني قردة الچيبون والغناء البشري"، يستقرئ عالم الأنثروبولوجيا، توماس غايسمان، تطور الغناء لدى الثديات من مجموعة الرئيسيات، أو القردة على أنواعها، مشيراً إلى ارتباطه، على نحو ما، بسلوكيات التزاوج ما بين الأنثى والذكر، وذلك من أجل المحافظة على وثاقة الصلة مع الجنس الآخر، بغية الإنجاب والعناية بالصغار.
أما في بحث بعنوان "مقاربة متعددة المناهج إزاء أصول الموسيقى"، نشرته مجلة العلوم الأنثروبولوجية سنة 2014، يُضيف الباحث إيون مورلي دوراً لما يُطلق عليه "الاصطفاء الثقافي" القائم على تعزيز سمات اللياقة الاجتماعية، من خلال الموسيقى على نحو خاص في عادات التزاوج بين البشر، على دور الاصطفاء الدارويني الطبيعي المتكئ فقط على البيولوجيا، وذلك في تتبّع المنشأ والسبب في ميل الإنسان إلى العزف والغناء.
بمقتضى الحال البشرية، ومع أخذ رأي العلماء في عين الاعتبار، لا يغيب عن ذهن قارئ مدى ارتباط الموسيقى بالمشاعر، بحكم أن الموسيقى هي أشد الوسائط الفنية مقدرة على التعبير المجازي عما يحترق في قلبٍ من عاطفة، وما يختلج في نفسٍ من أحاسيس. فما بالك، إذن، بالحب وأشكاله العديدة، من حب جمع اثنين أو فرّقهما، عشيقين كانا أم صديقين، إلى محبة يعانق بها الإنسان الإنسانية.
ألّف بيتهوفن سلسلة غنائية حملت عنوان "إلى الحبيبة البعيدة"
يُعد تقليد التروبادور أحد تلك الجذور البكر والعميقة للموسيقى الكلاسيكية. وهو فنٌ خطابي يؤديه شاعر جوّال، يُلقي القصائد الغزلية المغنّاة مصاحبةً بالعزف على العود أو القيثارة، كان قد ازدهر في معظم أرجاء أوروبا زمان العصور الوسطى، ويُعتقد أن له أصولاً ترجع به إلى الحكم العربي لشبه جزيرة الأندلس، حتى أن التسمية ذاتها (تروبادور) لعلها تحويرٌ للفظة طرب - دور، أو دور طرب بالعربية.
من هنا، يبدو الحب كما تغنّى به العرب وعاشوه وعانوه، كما لو كان داخلاً بصميم التعبير الموسيقي لدى الغرب. ألم الفراق والشوق إلى اللقاء والتوق إلى الوصال، في ظل البعد والانفصال بوصفها جميعاً من موضوعات الحب العذري، الذي عادةً ما يدور في داخل الشاعر وخارج خيام الزوجية، التي لطالما دأبت على تأسيسها الاعتبارات الأسرية والقبلية، صار عبر وسيط التروبادور من مُشكِّلات الخاصية السردية، الدرامية والاحتدامية، التي ظلّت تُميز الموسيقى الكلاسيكية في الشكل والمضمون، وحتى في الصياغة، على الأخص في الحقبة الرومانسية في القرن التاسع عشر.
أحد رموز الحب العذري، أحادي الطرف والمستعصي، من بين أعلام الموسيقى الكلاسيكية، ليس سوى رمز الرومانسية الأول والأكبر، لودفيغ فان بيتهوفن. حياة الموسيقار لم تكن وحدها سلسلة من التجارب العاطفية البائسة أو غير المكتملة في أحسن الأحوال، بل إنها قد انعكست أيضاً على أعماله بالعناوين والمضامين.
فالمؤلف الأشهر في عصره، وفي كل عصر، لم يتزوج قط. وذلك في زمنٍ لم تزل الطبقات الاجتماعية تحدد مصائر النسوة، سواءً بتزويجهنّ عنوة، أو بتقييد خياراتهن حيال من يتزوجن، فقد فشل "المزّيكاتي" سليل الأسرة المتواضعة في بلورة أيٍّ من قصص الحب التي عاشها تتويجاً بالارتباط، وانتهاءً بالأسرة والأولاد، كما دلّت الرسالة الشهيرة التي تعود إلى سنة 1812، المكتوبة بخط يده، وقد عُثر عليها بين أشيائه بعد رحيله، والتي وُجهت معنونةً مفتوحةً على الترجيح والتأويل "إلى الحبيبة الخالدة".
من الناحية الإنتاجية، تعد السلسلة الغنائية التي ألفها بيتهوفن بعنوان "إلى الحبيبة البعيدة"، ويُعتقد أنها جاءت صداً لمتن الرسالة سابقة الذكر، المثال الأكثر صراحةً في تناول أثر الحب على الموسيقار، وذلك مقابل الإيحاء السردي والتعبير المجازي، الذي غالباً ما يستبطن الأعمال الآلية. عبارة عن ست أغان كُتبت لصوت الباريتون الرجولي الجهير، بمصاحبة آلة البيانو. لا تتبع في تتالي حلقاتها سيرورة تُفضي إلى خاتمة، بل قفلة تُغلق المؤلف دائرياً، وذلك بإعادة موضوعة الأغنية الأولى في الأخيرة.
إحباطاته الغرامية أتت هي الأخرى حبلى بإبداعات خلّدها له التاريخ. "من أجل إليز"، المقطوعة الخفيفة ذائعة الصيت للبيانو، التي عزفها عبر العصور وحول العالم كل من وطأت أصابعه تقريباً لوح مفاتيح تلك الآلة، يُعتقد أن بيتهوفن كان قد كتبها تكريماً لذكرى إحدى حبيباته البعيدات، وهي تيريزا مالفاتي، كان قد تقدم بطلب يدها مرة، إلا أنه رُفض بحكم أنها سليلة عائلة ثرية قد جرى تزويجها لأحد النبلاء في ما بعد.
امرأة ثانية، هي جولي غويتشيّاردي، كانت فتنتها الشعلة التي فجرّت في قلب بيتهوفن عملاً إبداعياً طُوّب كواحد من أشهر ما كُتب لآلة البيانو، ألا وهي سوناتا ضوء القمر بحركتها الأولى الشجيّة والجليلة. غويتشيّاردي أيضاً كانت من أسرة نبيلة وثرية، دخلت على حياة الفنان سنة 1801 كتلميذة تدرس عنده عزف البيانو. حتى زواجها من كونت نبيل، كان مؤلفاً هو الآخر، لم يطفئ نار العشق في قلب العاشق.
عبقرية موسيقية أخرى احترقت بنار حب مستحيل في زمانه، هو المؤلف الروسي بيتر إليتش تشايكوفسكي. نارٌ لم تكن كأي نار، فتشايكوفسكي كان يميل بقلبه إلى من مثل جنسه، في عصر وَصَم أمثاله بالعار، ولا تزال روسيا اليوم بمؤسساتها السياسية والثقافية مع صعود التيار القومي المحافظ، تُنكر ما خفي من حياته العاطفية التي أخذت تتكشّف بعد خروج بعض رسائله الشخصية من العتمة إلى الضوء.
خلال فترة كتابته لواحدة من أشهر لوحات الباليه، "روميو وجولييت"، اقتباساً لرائعة وليم شكسبير الشهيرة، كان الموسيقار عالقاً بشباك عشقه لإدوارد زاك، الذي كان وقتها لا يزال طالباً يدرس الموسيقى في موسكو، واصفاً إياه في إحدى رسائله بحب حياته. وكما جرى لجولييت حين فقدت روميو بعد أن تجرّع السم، انتحر زاك مسموماً، بضع سنوات قليلة عقب إنجاز التحفة الفنية الراقصة؛ وكما لو أن العاشق قد بكى معشوقه بمرثيّة تليق بعشقه قبل مماته.
إبعاداً للشبهات وفي مسعى من أجل صرف الأنظار عن حقيقة ميوله العاطفية، تزوج تشايكوفسكي من إحدى طالباته المُعجبات حين كان عميداً للمعهد الموسيقي في موسكو، وهي أنطونيا ميليوكوفا. كان زواجاً كارثياً لم يدم طويلاً، ولم يزد حياة المؤلف إلا كرباً وعذاباً، يتناهى في أبدع صورة سمعية في الحركة الرابعة من سيمفونيته السادسة والأخيرة، صرخة عارمة كتمها الوجع وأطلقها الغضب من جور الحياة وظلمها لكل من يرنو إلى الحرية.
فالحب، سواءً كان موضوعاً أم معاشاً، فكرةً أم تجربةً، ممكناً أم محالاً، حقيقةً أم خيالاً، لن يجد أجلّ وأجلى من الموسيقى وسيلةً للتعبير عنه والتأمل فيه. الحب، ذاك الشعور القابض والغامض، الثابت والمتحول، اليقيني والملتبس، هو في آن واحد القوة البشرية الكاسرة والكسرة النفسية الكاشفة للضعف الإنساني، جلاؤه وغموضه يستدعيان وسيطاً يتجاوز الكلمة إلى الإشارة ويعبر من تربة اللغة إلى هواء الصوت.