باب النصر... جرافات القاهرة تحاصر الجبانة التاريخية

10 اغسطس 2024
يزيد عمر الجبانة عن ألف عام (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- **تاريخ جبانة باب النصر وأهميتها**: جبانة باب النصر في القاهرة، التي يزيد عمرها عن ألف عام، تضم رفات علماء وأدباء وأمراء مثل ابن خلدون وتقي الدين المقريزي، وتحتوي على نماذج فريدة من الأضرحة والمقصورات الخشبية.
- **الجدل حول هدم الجبانة**: قرار هدم الجبانة لإنشاء موقف سيارات يثير جدلاً واسعاً واعتراضات من المهتمين بالتراث، رغم حملات الناشطين لإنقاذها.
- **مواقف الخبراء والباحثين**: خبراء الآثار يعبرون عن حزنهم ودهشتهم من عمليات الهدم، مشيرين إلى وجود حلول بديلة للحفاظ على التراث دون الإضرار به.

حين بنى بدر الجمالي أسوار القاهرة الفاطمية، التي نشأت بداخلها منطقة الجمالية (ولد فيها الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي)، لم يتخيّل طبعاً ما سيلحق بالمنطقة الشهيرة بعد عقود من دمار، وآخرها قرار هدم الجبانة التاريخية مقابل باب النصر، أحد أبواب القاهرة التاريخية، التي تضم السور الكبير، وتسمى جبانة باب النصر التي تعد أقدم المدافن التاريخية في القاهرة.

يزيد عمر جبانة باب النصر عن ألف عام، وتضمّ نموذجاً فريداً للمدافن، إذ تُحيط مقصورات خشبية بالأضرحة، وقد اشتهرت بتنوع القبور فيها، وبتصاميمها المعمارية الفريدة التي تعكس التطور الحضاري للمدينة. ويأتي قرار هدم الجبانة وسط جدل واعتراضات سبق أن أحاطت بقرار هدم جبانتي الإمام الشافعي والسيّدة نفيسة، غير أن حملات المعارضين على مواقع التواصل، وزيارات ميدانية جماعية لها، لم تفلح إلا في إنقاذ أضرحة عدد من المشاهير، ومنهم ضريح عميد الأدب الراحل طه حسين، وهو ما يتوقع أن يكون مصير الحملات الراهنة لمحاولة وقف هدم الجبانة، بعد تصريحات رسمية تؤكد المضي قدماً في مخطط الهدم الدائر على قدم وساق في المحافظة.

وتضم جبانة باب النصر رفات علماء وأدباء وأمراء، كما تتّفق معظم المراجع على أنّ ابن خلدون دُفن فيها، وهناك شكوك حول احتمال وجود قبره حتى اليوم، كما تضم رفات تقي الدين المقريزي. ويرجع بناء الجبانة إلى قُرابة عام 1300 ميلادي، كما كانت، في الوقت نفسه، أوّل مقبرة أهلية لفقراء القاهرة. ورغم حملات قام بها ناشطون ضد هدم الجبانة، تواصل جرافات محافظة القاهرة خلال هذه الأيام عمليات الهدم، بهدف إنشاء موقف للسيارات متعدّد الطوابق لخدمة زوّار المنطقة.

وسبق للباحث في الآثار الإسلامية ثروت فتحي الأزهري أن حصل على شهادة الدكتوراه من كلية السياحة والفنادق في جامعة المنيا، بعدما قدّم أطروحته حول جبانة باب النصر. وتضمنّت رؤية شاملة لوضع المنطقة على خريطة السياحة الدينية والإرشاد السياحي، لكن مصيرها كان مصير خطط كثيرة: الاختفاء داخل الأدراج الرسمية.

من جهته، يشير الباحث في مجال الآثار جلال عبادة في منشور في "فيسبوك"، إلى أن بعض المقابر هدمت في بداية الألفية، ومنذ عامين هدم عدد آخر، "إلى أن وصلنا لهذه الهجمة الحالية الشرسة المتمثلة في التدمير التدريجي واسع النطاق لمقابر باب النصر لإقامة موقف سيارات متعدد الطوابق ليخدم فندقاً أو اثنين داخل السور - وفقاً لما نشر بوسائل الإعلام". وأفاد بأنه كان من الممكن إيجاد عشرات الحلول التخطيطية والعمرانية لهذا "الكراج متعدد الطوابق" التي تتناسب مع طبيعة المنطقة التاريخية وتتناغم مع نسيجها العمراني من دون الإضرار به، وتحافظ على هذه الموارد النادرة في الوقت نفسه.

وأكد خبير الآثار ورئيس حملة الدفاع عن الحضارة المصرية، عبد الرحيم ريحان، أن أهمية هذه الجبانة تكمن في وجود شخصيات ذات قيمة تاريخية مدفونة فيها، أو تركيبات خشبية ذات قيمة فنية، ولكن من غير المؤكد وجود قبر فيها لبدر الدين الجمالي الذي قام ببناء أسوار القاهرة بين هذه القبور، أو قبر ابن خلدون. وأضاف في حديث مع "العربي الجديد"، أن المناطق المراد هدمها غير مسجلة كمبانٍ تاريخية، بينما المباني التاريخية هي المنشآت ذات الطراز المعماري المتميز، أو المرتبطة بالتاريخ القومي أو بشخصية تاريخية، أو التي تمثل حقبة تاريخية أو التي تعتبر مزاراً سياحياً، وبالتالي لا تخضع للحماية بموجب القانون رقم 144 لسنة 2006. ومن ثم، والكلام ما زال لريحان في حديثه لـ"العربي الجديد"، فإن الشرط الوحيد لهدم مقبرة باب النصر والاستفادة من الأرض هو حرمة الموتى ونقل رفاتهم إلى أماكن أخرى. وأشار ريحان في هذا السياق إلى قرار محافظ القاهرة رقم 1117 لسنة 2024 بإيقاف الدفن في تلك المدافن ونقل الرفات إلى مدافن بديلة، وكذلك تصريح نائب محافظ القاهرة، اللواء إبراهيم عبد الهادي، وإخلاء 1171 مقبرة و49 مدفناً من مقابر المنطقة إلى يسار باب النصر في شارع البنهاوي، يؤكد اعتزام الحكومة تنفيذ المشروع.

من جهته، قال أستاذ الآثار الإسلامية في كلية الآثار في جامعة القاهرة، محمود مرسي، إن سوابق هدم مقابر وجبانات بالقاهرة لم تمس آثاراً مسجلة أو أشياء ذات قيمة تاريخية، مشددًا على أن سوابق الهدم الحكومية تستثني المناطق الأثرية المسجلة من أي هدم، بل إنها تلجأ إلى خبراء ومتخصصين لتجنب المساس بأي آثار مسجلة. وبدا مرسي واثقاً من استحالة تنفيذ ما يخالف قانون حماية الآثار الذي لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها، بل إن مهمة الدولة هي الحفاظ عليها وترميمها وليس هدمها، وهو ما لم يحدث في السابق. وشدد في حديثه مع "العربي الجديد" على ضرورة الانتظار لحين صدور قرار رسمي من محافظة القاهرة أو وزارة الآثار يحدد مساحة المنطقة المراد هدمها وتفاصيلها، وما إذا كانت تحوي آثاراً مسجلة.

الدكتور مجدي شاكر، كبير الأثريين في وزارة السياحة والآثار، عبّر عن حزنه لعمليات الهدم، وقال لـ"العربي الجديد": "هناك أبحاث عدة لتطوير المنطقة، إذا استعان بها صاحب القرار لدرت على الدولة عائدا ينافس الأهرامات بدلا من هدمها، خاصة أنها تضم أضرحة عدد ضخم من مشاهير المؤرخين والعلماء وعلى رأسهم ابن خلدون والمقريزي". وأبدى شاكر دهشته من صمت منظمة يونسكو قائلا: "يبدو أن القرار اتخذ من سلطة أكبر من الوزارة، وأن تلك السلطة ليس لها علاقة بالتراث أو الآثار ولا تستعين بالخبراء، وإنما همها الأول الاستثمار والعائد المادي السريع والسهل".

وأكدت المهندسة مروة عبد الجواد، المتخصصة في فلسفة التاريخ العمراني، أن عمليات هدم الجبانات بدأت قبل 52 عاماً عندما شق طريق صلاح سالم وتبعه الأوتوستراد في السبعينيات، "وقد حصل ذلك في فترة لم تكن المقابر فيها مدرجة على قائمة التراث العالمي ولم يتم توثيق الخسائر. بينما بدأت عمليات الهدم في باب النصر في أواخر التسعينيات، ورغم تميز مقابرها الخشبية التي لم تتكرر، لكن لم يشفع لها في عمليات الهدم وشق الطرق".

دلالات
المساهمون