اليوم العالمي للمتاحف: آثارنا التي تملأ خزائن العالم

18 مايو 2022
لا يزال حجر رشيد تحت سيطرة المتحف البريطاني (ريتشارد بيكر/Getty)
+ الخط -

لعلّ الأيديولوجيا واحدة من اللعنات التي وسمت الأثر، أو المعلم الأثري. وكل ما قيل ودار في فلك "بروباغندا الشغف والغرام بالأنتيك"، تنامى مع ازدياد نفوذ السلاطين والحكام، الذين دأبوا على اقتناص مجموعاتهم الباذخة من التحف الأثرية، من دون إدراك لأهمية ما يُعرض في قاعات عروشهم، التي بدت كمتاحف خاصة. في ذات الوقت، كانت تحاك المخططات في مخابر الساسة الأوائل، وينشط البحث في المصادر التاريخية عن اللبنة الأولى، التي ستساهم في بناء الإمبراطوريات الحديثة.
ساهمت الكتب المقدسة (العهد القديم والحديث)، ومدونات وكتابات المؤرخين الكلاسيكيين، مثل هيرودوت واسترابون وزينوفون، في تسهيل آليات الوصول إلى خبايا عديد من المدن، التي لم تكن وقتئذ واضحة المعالم. فاكتسبت نينوى شهرة كبيرة لذكرها، في العهد القديم، باسم "المدينة العظيمة"، إلى جانب ورود اسمها في كتابات المؤرخين، الذين زاروا آشور وبابل. شجّع ذلك عديداً من الرحالة الأجانب إلى زيارة هذه البقاع. أول من زار مدينة الموصل في عام 1160 كان بنيامين تطيلي؛ يهودي من إسبانيا. وصف مدينة نينوى على أنها آشور، وبالغ بأبعاد سورها، متأثراً بما جاء في العهد القديم. وكذلك الرحالة الإيطالي، بيترو دي لافالي، الذي استغرقت رحلته 12 عاماً (1612 - 1624)، زار خلالها عدة مدن، ومن بينها نينوى؛ إذ درس آثارها، وأخذ معه بعضاً منها إلى أوروبا، فكانت بذلك أولى المجموعات الأثرية التي وصلت إلى أوروبا.
لا يمكننا أن نغفل بأن التنقيب عن الآثار، في البدء، كان أقرب إلى النبش منه إلى الكشف العلمي الدقيق. ساهمت كتابات هؤلاء في تنشيط البعثات الاستكشافية الأوروبية. إلا أن الحصاد الأكبر للقطع الأثرية، تزامن مع زيادة الهيمنة الاستعمارية على الشرق. فأثناء الحملة الفرنسية على مصر، جلب نابليون بونابرت العديد من العلماء والمستكشفين الذين توصلوا إلى اكتشافات أشهرها حجر يعود للعصر البطلمي، عثر عليه عام 1799، في القلعة المملوكية في مدينة رشيد. وعندما خسر الفرنسيون حربهم أمام الإنكليز (1801) في مصر، استولى الإنكليز على كل الآثار التي وجدها الفرنسيون، وكان من بينها حجر رشيد، الذي مثّل مفتاح حل رموز الهيروغليفية. شُحنت جميع هذه القطع في باخرة متوجهة إلى إنكلترا. حتى اليوم، لا يزال حجر رشيد، إلى جانب عدد من الآثار المصرية، تحت سيطرة المتحف البريطاني الذي يرفض بشكل قاطع إعادة حجر رشيد إلى مصر.
وإذا ما اتجهنا غرباً، يذكر الباحث عبد المحسن شداد، أن الفرنسيين أيضاً تشجعوا على تعزيز وجودهم في المغرب، بعد معركة إيسلي (1844). ومكّنت حرب تطوان (1860 - 1859) الوجود الإسباني من احتلال المدينة مؤقتاً، فتزايد توافد البعثات الأوروبية على مختلف أنحاء المملكة، التي عرفت منذئذ أبحاثاً متعددة التخصصات، كانت تهدف إلى الكشف عن القدرات البشرية والثروات الطبيعية، تمهيداً لعمليات الغزو العسكري.

ركّز قادة الغزو على الوحدة التاريخية، التي جمعت المغرب ببلدان القارة الأوروبية

وعلاوة على العامل الجغرافي المتمثل في القرب من الضفة الإسبانية، وتشابه العنصرين الطبيعي والبشري في البلدين، ركّز قادة الغزو على الوحدة التاريخية، التي جمعت المغرب ببلدان القارة الأوروبية، تحت راية الإمبراطورية الرومانية. وعلى هذا المبدأ، ساهم الباحثون في ميدان علم الآثار بالتنقيب عن كل ما يعود إلى العصر الروماني، واعتبروا وجود دولهم في هذه الأراضي، امتداداً طبيعياً لوجود "أجدادهم" الرومان فيها من قبل.
وفي سورية، الأمر مشابه؛ فطوال فترة الاحتلال الفرنسي، نُبشت مواقع أثرية ضخمة، مثل موقع المشرفة (قطنا القديمة)، بالقرب من حمص، وماري في دير الزور. نقلت القطع المكتشفة إلى فرنسا، وتشغل اليوم أجنحة في متحف اللوفر، وأهم هذه القطع "أرشيف ماري" الضخم، والعديد من القطع النادرة التي تعد أبرز ما في المتحف. كذلك الأمر بالنسبة لمكتبة آشور بانيبال، التي نقلت من العراق، ولا تزال حبيسة خزائن المتحف البريطاني.
تتشابه كل من سورية والعراق بالحقب التاريخية التي تضمنتها سويات كل موقع، وبأسماء من قادوا لواء فتح الطبقات الستراتغرافية، وإخراج مخزونها المهم، والتأمين على وصولها إلى متاحف بلادهم.
ففي موقع تل حلف الأثري، الذي يقع على ضفاف الخابور، سُمح عام 1929 للدبلوماسي الألماني ماكس فون أوبنهايم بإرسال ثلثي المكتشفات إلى برلين، والبقية أرسلت إلى متحف حلب. افتتح أوبنهايم في برلين متحف تل حلف (1930)، ليضرب بالقنابل في عام 1943؛ فتعرضت الآثار إلى أضرار كبيرة.
كانت ظروف التنقيب في تل حلف مثالية، نظراً إلى أن البقايا المعمارية والمنحوتات الفنية فيها، وجدت بشّكلٍ مكثف تحت سطح التل مباشرة.‏ في عام 1899، اكتشف أوبنهايم، آثار تل حلف. ربطت أوبنهايم علاقات وثيقة بالسلطان العثماني؛ فاستطاع الحصول على الموافقة بمباشرة العمل هناك. وثق أوبنهايم، الذي ينتمي إلى عائلة مصرفية عريقة، رحلاته إلى الشرق في كتب حملت صفحاتها تفاصيل مهمة ودقيقة عن شعوب المنطقة، وعمل في القاهرة لمدة 13 عاماً مستشاراً للقنصل الألماني. في عام 1914، استدعته وزارة الخارجية للخدمة، وأصبح مسؤولَ مكتب دائرة الاستخبارات في المنطقة الشرقية بأكملها. في ذلك الوقت، كانت ألمانيا هي المسؤولة عن الدعاية ضد إنكلترا وفرنسا، وتأليب الشارع الإسلامي ضد البلدين.
لا تقتصر القائمة على ماكس فون أوبنهايم، بل تطول لتشمل أسماء جاءت إلى الشرق بصفة مبشرين أو منقبين عن الآثار، ممن لم تتضح خلفياتهم إلا بعد أن رأينا آثارنا معروضة في متاحف بلادهم، من هؤلاء ليونارد وولي وماكس مالوان ولورانس العرب.

نشط في مناطق الاحتلال في كل من فلسطين والجولان المحتل حملات تنقيبية

أما في فلسطين، فلا مجال لذكر التعقيدات التي طاولت سوياتها الأثرية، إذ تنشط في مناطق الاحتلال في كل من فلسطين والجولان المحتل حملات تنقيبية، لم تكن يوماً تهدف إلى الاهتمام بالأثر وقيمته، بقدر ما تحاول أن تزرع سويات ترسّخ من وجودية الاحتلال. فكل ما تنتجه طبقات هذه البقاع خاضع وبشكل مطلق لسلطة هيئة الآثار الإسرائيلية.

تعد "مخطوطات قمران" مثالاً مهمّاً يجسّد "مظلومية الاحتكار" إن صحّ القول. كان العثور على مخطوطات عبرية وآرامية شمال غرب البحر الميت- في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية، بمثابة أمل جديد للتعرف على أحداث التاريخ القديم في فلسطين، في الفترة الواقعة بين القرن الثاني قبل الميلاد، ونهاية القرن الأول للميلاد. تُرجم بعض هذه المخطوطات، إلا أن النشر توقف بعد سيطرة الكيان الإسرائيلي على متحف القدس، بعد نكسة حزيران 1967.
لا يزال نصف المخطوطات غير منشور، ولكتم الأصوات التي ارتفعت، صورت دائرة الآثار الإسرائيلية بعضها، وزعمت أنها جميع المخطوطات الموجودة في متحف "روكفلر" بالقدس المحتلة.
وبهذا، الخصوص يذكر أن موقع تل القاضي في الجولان المحتل، يحوي سويات تعاصر فترة هذه المخطوطات، إلا أننا غرباء عن كل ما تحمله طبقات أراضينا، ولا نعلم ماذا تنتج آثارها.. على الأرجح، هناك تعليمات بعدم إحداث أسبار تنقيبية في مناطق الجنوب السوري، خوفاً من العثور على ما يعاصر هذه الحقبة، التي ما زالت خفاياها ملكاً بيد الاحتلال الإسرائيلي.
في النهاية، كل ما ذكر سابقاً، يروي مسيرة قطع أثرية نهبت في أعقاب القرون الـ 17 والـ 18 والـ 19. ماذا لو علمنا اليوم بأن هناك متحفاً يحمل اسم إله الكتابة والحكمة، نابو، قد أنشئ عام 2018 في لبنان، وجميع مقتنياته هي قطع أثرية مسروقة من سورية واليمن والعراق ومصر ولبنان!

وكيف يمكن لمنظمة مثل "إيكوم" (المجلس الدولي للمتاحف) أن تمارس أعمالها، وهناك متحف أساساته مستمدة من المجازر المرتكبة بحق الطبقات والسويات الأثرية؟ وكيف لها أن تحوي قوائم وأجهزة استخبارات متطورة، بينما تعج صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، والمواقع الإعلامية، بصفقات بيع القطع الأثرية في السوق السوداء؟
إلا أن السؤال الأساس: ما الدور الذي تقوم به "إيكوم"، وآثارنا منذ الأزل مبعثرة وتملأ خزائن العالم؟

المساهمون