- يوسف يُضيف لقطات جديدة وأشرطة لوالده لتوسيع الصورة عن الحياة خلال وبعد الانتفاضة، مُسلطًا الضوء على العلاقات الأسرية وكيف يُمكن للحب والتصوير أن يكونا وسيلة للمقاومة.
- الفيلم يُقدم رؤية شخصية للعيش تحت الاحتلال، مُركزًا على أهمية التصوير في الحفاظ على الذاكرة والهوية، ويُبرز قوة الأفراد في أوقات الأزمات، مُعقدًا تأملات حول الأمان والانتماء.
أعوامٌ مديدة تسبق تمكّنَ يوسف السروجي من معاينة أشرطة فيديو منزلية، مُصوَّرة في مناسبات مختلفة، قبل أنْ يختار منها نواةً أساسية لـ"الوعود الثلاثة" (2023، 60 دقيقة)، المشارك في الدورة الـ17 (17 ـ 19 مايو/أيار 2024) لـ"مهرجان هيوستن للسينما الفلسطينية": زمن الانتفاضة الثانية، المعروفة بـ"انتفاضة الأقصى". فوالدته سهى، التي تُبدي هوساً بالتصوير، مُحبّباً ومحفوفاً بخطرٍ أحياناً، تُقرّر تصوير يوميات عائلتها (زوجها رمزي وولداها ديمة ويوسف) في تلك الفترة. هي ترغب في توثيق حياة أفرادٍ، وما يُحيط بهم وبهنّ من أهوالٍ، تتمثّل بخوفٍ وقلق وتحدٍّ، في مواجهة إحدى الحروب الإسرائيلية المتتالية ضد الفلسطينيين والفلسطينيات. والمواجهة تتغذّى بحبٍّ كبير وعميق للمدينة والبلد، كما تقول سهى، غير المتمكّنة من الإيفاء بـ"وعودها" الثلاثة للخالق، القائلة (الوعود) بمغادرة المدينة والبلد إنْ تنجو وعائلتها من قصفٍ وعنفٍ وتدمير، يُتقن المحتلّ الإسرائيلي صُنعها.
لكنّ يوسف السروجي غير مكتفٍ بأشرطة والدته، المعنيّة (الأشرطة) بيوميات الانتفاضة الفلسطينية الثانية (28 سبتمبر/ أيلول 2000 ـ 8 فبراير/ شباط 2005). ففي مناسباتٍ أخرى، تلتقط الكاميرا أحوال أفراد العائلة، معاً أو كلّ واحدٍ منهم ومنهنّ على حدة. والتصوير غير محصورٍ بهوس سهى وحدها، فلرمزي أشرطةٌ أيضاً، يُضاف إليها، كما إلى غيرها، صوت المُصوِّر ـ المُصوِّرة، إمّا في حوار مباشر مع من يُصَوَّر (يوسف وديمة ووالدا سهى مثلاً)، وإمّا صوت الراوية ـ سهى، في سردٍ لها، من دون ظهورها أمام الكاميرا، رغم ظهورها في أشرطةٍ مُصوّرة سابقاً (لإنجاز الفيلم، يُصوّر يوسف السروجي ومشعل قواسمي لقطات عدّة أيضاً).
وإذْ يُبنى "الوعود الثلاثة" على أشرطة الانتفاضة الثانية في أعوامٍ متفرّقة، فإنّ الامتداد البصري كامنٌ في أفلامٍ مُصوَّرة في النصف الثاني من تسعينيات القرن الـ20. امتداد يروي مقتطفات من سيرة العائلة، مع أنّ النصّ الأصليّ للسيرة مرويّ بصوت سهى، المرأة الجميلة، التي تتحدّى موتاً يوزّعه المحتلّ الإسرائيلي في مدينتها بيت جالا (الضفة الغربية) وبلدها فلسطين، والتي تحتال على ابنتها في لحظات تصوير عدّة، كأي مخرج ـ مخرجة وثائقيّ محترف، إذْ أنّها متمسّكة بالتصوير، والابنة رافضة له أحياناً، فيكون الاحتيال درباً إلى توثيق لحظاتٍ، يصنع يوسف السروجي منها فيلماً مؤثّراً وواقعياً وآسراً، يطرح أسئلةً، لن تُشغل بال سهى ورمزي في مراحل التصوير، بينما يبرع التوليف (الإيراني الأميركي مهدخت محمودآبادي) في كشفها: معنى التصوير وكيفية إنجازه في مناسبات مختلفة؛ العلاقة بالعائلة والمدينة والبلد؛ ثنائية البقاء ـ المغادرة؛ التهجير القسري في الداخل الفلسطيني.
هوس سهى بالتصوير دافعٌ لها إلى معاندة ولديها، اللذين يُصرّان عليها للنزول إلى ملجأ في البناية، لكنّها مكترثة بالتصوير، في لحظات القصف الإسرائيلي ليلاً، رغم عدم وضوح رؤية جيدة للتصوير (هذا سؤال إضافي، يتناول علاقة أهل بأبناء ـ بنات). معاندةٌ لن تقوى على ديمة ويوسف، فسهى تُدرك أنّ في الملجأ إمكانية لإكمال هوسها، ورفض الابنة، أحياناً قليلة، للتصوير، يُقابله احتيال الوالدة، الهادف إلى الاستمرار بتحقيق هوسها. في لحظةٍ، ينزعج رمزي، فيقول لزوجته: "كفى تصويراً. هذا ليس مسرحاً". سهى تقول إنّها تعرف متى النزول، الحاصل عند اقتراب الخطر. هذا يؤدّي إلى فقرةٍ أخرى: مقتل محمد الدرّة بين ذراعي والده (30 سبتمبر/أيلول 2000). فوالده يحاول تهدئته، بقوله له إنّ شيئاً لن يحدث. إسقاطٌ على قلق ديمة ويوسف، ما "يُقنع" سهى بوجوب مرافقتهما إلى مكانٍ يعتبرانه آمناً.
لقطات عدّة، "أنقى" بصرياً من أشرطة قديمة، تعكس طبيعةً تحبّها سهى وترتاح إليها. حبّها لبيت جالا (المُعلَن) يتساوى وهوسها بالتصوير (المضمر). وعودها غير منفَّذة (رغم أنّ المغادرة حاصلةٌ لاحقاً)، لأنّها مرتبكة إزاء ثنائية البقاء ـ المغادرة. أي قرار منهما صعبٌ وقاسٍ. هذا ليس تفصيلاً عابراً، لأنّه جزءٌ من حالةٍ وانفعال وارتباطٍ بأرضٍ وعمارة وبساتين وجيران وأزقّة. صوت سهى الراوية ينبش في ذاكرةٍ وحالةٍ ومشاعر وآمال. نبرته مختلفة قليلاً عن نبرة قديمة، تُسمَع في أشرطتها. هناك أيضاً أشرطة تُظهِر والديها وأقارب لها، في الانتفاضة الثانية، وفي السابق عليها أيضاً. هناك "العودة" إلى المدينة، ويوسف يُصوّر سهى في المقعد الخلفي لسيارةٍ تقلّهما إلى المنزل، بعد سنين من الغياب، وفي السيارة استعادةٌ للحظاتٍ قديمة.
"أمّاه، منذ تحرّكنا، لا أزال أبحث عن مكانٍ أرتاح فيه"، يقول يوسف بلكنة فلسطينية. يُضيف بعد قليل: "أتعرفين (أمّاه)، هناك أمر غريب. أحياناً، أشتاق إلى الانتفاضة. أشتاق إلى حياتنا في الانتفاضة. كأنّ هناك شعوراً بالأمان تحت القصف. لكنّي لا أعرف لماذا". هذا غير عابر. هذا خارج من عمق ذاتٍ مُصابة بلعنة الفراغ، فيوسف يفقد طفولته، كما تُلاحظ سهى، بُعيد اكتشافه فراغ بيتٍ من أهله. كأنّه يُدرك باكراً فداحة الحاصل، والذي سيحصل.
في الدقائق القليلة الأولى، يُسمَع صوتٌ (يوسف) يقول لوالدته: "ماذا يا أمّي؟ 15 سنة وأنتِ تخبّئين الفيديوهات عنّي وعن ديمة. لماذا؟ مِمّ تخافين؟ (أتخافين من أنْ) تزعلي (مُجدّداً)؟". في هذا ما يوحي بمُصابٍ يُتوقَّع، ما يعني انتظار الأسوأ والأخطر. تدريجياً، ينكشف مواربةً سببُ خوف سهى من الزعل مجدّداً. الأسئلة المطروحة تقول هذا، أو بعضه. السرد أيضاً.
ميزة مهمّة: لا دموع في "الوعود الثلاثة". التأثّر يحضر، لكنْ من دون دموع. هناك ضحك وقوّة وعناد ومواجهة وتحدٍّ، وخوف وقلق وارتباك. هناك أفرادٌ ذوو شخصيات قوية، أبرزهم سهى. ميزة إضافية: التكثيف. تكرار لقطات متشابهة غير نافرٍ، لأنّه تأكيد لحالة أو لحظة أو موقف. تشذيب ما يُعثر عليه أساسي أيضاً. غرفة المونتاج صانعةٌ بهيّة لفيلمٍ يوغل في الذاتي، راسماً بتوغّله أحوال بيئة وأهوال عيشها وآمال بعض ناسها. لقطات العودة هادئة وسلسة، رغم ما يُفترض بالعودة بعد غياب طويل أنْ تصنعه من انفعال وتأثّر ورهبة، خصوصاً بالنسبة إلى سهى، المتيَّمة بمدينتها وبلدها.
ملاحظة أخيرة: أغنية النهاية، "يُمّا موّال الهوى" (أغنية فولكلورية، بصوت سنا موسى) غير متلائمة والسياق الدرامي للمُنجز البصري. أغنية عن نضال وكفاح، بالمعنى الشعاراتي التقليدي، غير متوافقة وسِير أفراد، بعضهم ذو شخصيّة قوية ومُعانِدة ومتحدّية وجبّارة في اتّخاذ قرار الخروج ـ المغادرة.