استمع إلى الملخص
- توثق الكاميرات مشاهد النزوح الجماعي لسكان غزة، حيث يضطرون للبحث عن الأمان في أماكن أخرى، مما يعيد للأذهان تاريخ النزوح الفلسطيني المستمر.
- تلعب الأفلام الوثائقية دورًا مهمًا في توثيق المأساة الإنسانية في غزة، من خلال نقل قصص الأطفال والعائلات المتضررة، مما يعزز الشعور بالتضامن ويدعو للتحرك لإنهاء المعاناة.
امرأةٌ تبرز بين الجموع. خلفية الصورة أنقاض بناية تنهار، بفعل صاروخ قبل دقائق. المرأة تولول. تصرخ باحثة عن طفليها. المتلقّي يعرف أنّها من سكّان البناية المتهاوية، لكنّها كانت خارجها من أجل التسوّق، بعد أن استودعت طفليها فيها. بمن كانت تستغيث إذاً، ليأتي بطفليها، والجموع نالهم ما نالها؟
طفلٌ يبكي وهو يمشي مع هذه الجموع المُعذّبة، من دون عائلته. شيخٌ يُدفَع بعربةٍ مُهترئة، تحمل أشياء لم ينلها الدمار، قاصداً الأمان. هل هناك مكان آمن في غزّة اليوم؟
صُور أناسٍ اختلطت بصُور الدماء التي نالت كلّ شيء.
عجوزٌ سبعينية تقول: "منذ ولادتي، لم نَسلَمْ من هذه الحروب". آخر يقول: "أين العالم؟ ألم يَندَ جبينه؟".
صُور كهذه، وغيرها، تلتقطها كاميرا مُخرج يرغب في توثيق صورة شعب يعاني ويُقتَل. شعب لا ذنب له سوى أنّه فلسطيني.
أختار صُورا كهذه لفيلمٍ وثائقي، وما أكثر الوثائقيّات التي أرّخت ووثّقت حروب العالم. ما الذي ينتظره بعض مخرجينا ليحملوا كاميراتهم من أجل فلسطين؟ ليرصدوا هول المأساة التي يتعرّض لها الفلسطينيون منذ عام كامل؟ 50 ألف شهيد قُتلوا بين قساوة الطغاة وبراءة شعب.
إزاء المأساة التي تعيشها فلسطين الآن، لم نعد بحاجة إلى فيلمٍ وثائقي، محكوم بتقليدية تنفيذه، بل إلى المختلف والمغاير. فيلمٌ يرتقي بفكرته وصناعته إلى مستوى المأساة. يستنطق التفاصيل، ليس البشر وحسب. يُحرّك شعور الانتماء إلى هذه القضية.
تجول الكاميرا بين صُور المأساة. قصفٌ وحشيّ يستهدف كلّ البنى التحتية: أبنية تنهار برمشة عين. مستشفى يُقتَحم. نداءات استغاثة من مواطنين يغذّون السير في طريق، ولا يعرفون أيّ مجهول يقصدون.
الكاميرا تنقل صُوراً بلقطة بعيدة بالـ"درون". نزوحٌ جديدٌ لسكّان غزّة، وغالبيتهم أطفال. وكما في الوثائقي "نزوح إلى المجهول"، الذي يروي حكاية نزوح الغزّيين إلى الجنوب، خانيونس ورفح، يستعيد المتلقّي سِفْر النزوح الدائم. كأنّ هذا الشعب خُلق ليرحل. هذه المرّة، نزوح أبدي كما يريده الإسرائيليون، ويعود سكّان غزّة كما حصل منذ أكثر من 70 عاماً، والعيش في الخيام قاسٍ.
الأطفال في الوثائقي المُفترض يسردون كلّ شيء. يروي كلّ طفل مُعذَّب حكاية مأساوية. طفل فَقَد كلّ عائلته، باستثناء أخته الصغيرة ذات العامين. آخر مصدوم بما حصل ينظر إلى الكاميرا بعين مليئة بالخوف، ولا يعرف شيئاً سوى أنّه سائر مع آخرين إلى المجهول. آخرٌ يأمل رجوعاً إلى بيته، واستئناف لعبه.
أرى أنّ المحنة لا تُحتَمَل. الوثائقي، بين الأنواع السينمائية كلّها، يؤرّخ المعاناة التي يعيشها شعبٌ مُعذّب. فيلمٌ يستخدم الواقع كمادة خام، ويتولاّها فنان يتحكّم بقصته. ليس مهمّاً أنْ يروي قصة عن واقع الحياة. لكنْ، يكفي أنْ تدور الكاميرا في حجم المأساة، لتروي قصة هذا الشعب الرازح تحت وابل من أدوات الحرب الحديثة. تبقى الإجابات مُعلّقة، والمُشاهِد يصوغ معنى أيّ فيلم بجَمْعه بين معرفةٍ واهتمامٍ بالعالم، وشكلٍ يُصوّر به المخرج هذا العالم. في الوقت نفسه، تنطلق توقّعات المشاهدين بأنّهم لا يشاهدون تزييفاً وكذباً، فالوثائقي ينقل أشياء صادقة عن العالم الواقعي.
هنا، لا يحتاج صانع الوثائقي إلى المُراهنة على الصدقية التاريخية، فالتفاصيل متاحة، والوثيقة شأن المؤرّخ لا المبدع، الذي يستطيع أنْ ينحت من الوثيقة مادة إبداعه.