- فيلمه "النهر" يركز على الأنظمة البيئية للأنهار، مسلطًا الضوء على التحديات مثل الجفاف والتلوث، ويُظهر جهود الحفاظ على الأنهار والتصدي للتحديات البيئية من خلال مشاهد تأملية وتعليمية.
- "النهر" يعتبر وثيقة بيئية وعمل فني يعكس العلاقة بين الإنسان والطبيعة، مستخدمًا السينما لتقديم رؤية شخصية ومقترحات لمواجهة الأزمات البيئية، مؤكدًا على أهمية التكيف مع التغيرات المناخية والحفاظ على الموارد الطبيعية.
منذ أكثر من 20 سنة، لم يتوقّف دومينيك مارشي (1972) عن أفلمة الطبيعة القروية وتغيّراتها في فرنسا. إنّه اليوم أحد أهم ممثلي تيار السينما الإيكولوجية، بفضل وثائقيات مهمّة، كـ"زمن البركات" (2010)، الذي يحقّق في قدرة الفلاحة الفرنسية على الإجابة عن سؤال الاستدامة، وضرورة إحداث هزّة عميقة في النظم الاقتصادية والسياسية، لتلافي الانعكاسات الوخيمة للزراعة المكثّفة (مبيدات، أسمدة كيماوية، وغيرها) على استنزاف التربة. أو عملِه، ذي العنوان الجميل "لا إنسان جزيرة في حدّ ذاته" (2018)، حيث يتنقّل بين أرياف إيطاليا وسويسرا والنمسا، بحثاً عن سبل لمّ الإرادات الفردية في نظم محلية وتعاونيات، تسعى إلى أنْ تجعل من وقعها على استغلال الطبيعة شأناً سياسياً جماعياً، يضمن العيش الكريم، ومستقبلاً بيئياً مستداماً ومتناغماً.
في فيلمه الطويل الرابع، "النهر" (2023) -الفائز بجائزة "جون فيغو" المرموقة، التي تكافئ أصالة أعمال المخرجين، وجرأتها واستقلاليتهاـ يواصل اشتغاله على الأنظمة البيئية، من خلال الأنهار، هذا المورد الطبيعي الأساسي، الذي قامت عليه الحضارات البشرية على مرّ العصور، من دجلة والفرات في العراق القديمة، إلى النيل في مصر، مروراً بالغانج الهندي ويانغتسي في الصين.
بحسب تقارير صادرة عن "منظمة الصندوق العالمي للطبيعة" (WWF)، تتعرّض أنهار عدّة في العالم لخطر الجفاف، ما يؤثّر في ملايين السكان، ويدمّر التنوع البيولوجي على نطاق واسع. يركّز مارشي على أنهار "غاف" Gaves (مجاري مياه قوية تنطلق من سلسلة جبال "بيرينيه" وتصبّ في المحيط الأطلسي)، مقتفياً -في مشهد افتتاحي- جهود جمعية تجمع النفايات البشرية من النهر وتدوّرها، عبر لقطات مقرّبة لسعي أعضائها الحثيث، ما يجعلنا نلمس الإيمان العميق الذي يكتنفه عملٌ مضنٍ، وذو تأثير محدود، كهذا. يقترن شعور اليوتوبيا، المنبعث من هذه المشاهد الافتتاحية، بلمسة رثاءٍ دفينة لماضي الطبيعة، لصنع جوّ استثنائي يكمن وراء فرادة "نهر"، ووقعه القوي على المشاهد.
بعد ذلك، يفرد "النهر" طرحاً قوياً حول مخاطر تدنّي صبيب الأنهار، وتلوّث مجاريها، على التنوّع البيولوجي والسمكي، بالانكباب على مصير الـ"سَلمون"، الذي صعد لآلاف السنين مجرى المياه العذبة، عكس التيار، لوضع بيضه. غير أنّ انخفاض الصبيب، والآثار الضارة لنشاط الإنسان على تركيبة الماء وجغرافيا الأنهار، يعقّد مهمّة الـ"سَلمون" يوماً بعد يوم، ما يهدّد استمرارية طقس أزلي، وينبئ باختفاء هذا النوع المترحّل.
في مشهد جميل، يذكّر بالدوائر التي يسجلها الزمن على جذع الأشجار في "فرتيغو" (1958) لألفرد هيتشكوك، نتابع دراسة علمية لحجر صغير، يُستخرج من الأذن الداخلية لـ"السَلمون"، ينشأ عن ترسّبات متراكمة، تحمل في طياتها ذاكرة لتنقلات هذه الأسماك، وتركيبة الأوساط التي تعبرها في حياتها القصيرة. توضح الدراسة، بشكل مؤثّر، حجم الإجهاد الذي تتعرّض له، جرّاء تلوّث محيطها، بسبب الصناعات الكيماوية، وانخفاض صبيب الأنهار، بفعل السدود وأنشطة بشرية أخرى. هذا تجلّ بارع لقدرة السينما على الولوج إلى اللامرئي.
لا تعليقاً مهوّلاً، أو موسيقى صاخبة، في "النهر"، بل مزاوجة خلّاقة بين مشاهد تلتقط أناساً، يسعون إلى عكس مفعول الإنسان على الطبيعة، بدراسة وقع التحوّلات، ومحاولة فهمها أولاً، قبل أن يقتسموا رؤيتهم للطبيعة، وعلاقتهم اليومية بها. ثمّ يقدّمون تصوّراً شخصانياً للوضع المعقّد، واقتراحات واقعية لحلّه. عكس الوثائقيات التلفزيونية، التي تبئّر على الإشكالات، وتنسج حولها إثارة سهلة ربما تُنفّر المشاهد، يحمل "النهر" في أسلوبه انعكاساً لمعنى التناغم نفسه الذي ينادي به في طرحه، حين يمنح حيّزاً مهماً للالتصاق بإيقاع عيش شخصيات، كحارسة نهر ومسؤولة جمعية حماية الأنظمة المائية تقتسم، بابتسامة على محياها، شغفها بالأنهار والصيد المسؤول، قبل أنْ تطلق جملة مدوّية: "بعد 50 عاماً، من المحتمل أنْ تجفّ كلّ الأنهار".
في مشهد آخر، يظهر مدير المحمية الوطنية لـ"بيرينيه" عابراً نهر "دولورون" على قدميه، وموضحاً أنّه كان يقوم بذلك سباحة في شبابه. الانخفاض المهول لمنسوب المياه، وتغيّر التنوّع البيولوجي لأنهار "غاف"، ينعكسان أيضاً في اختفاء السلطعون النهري، أكثر أحياء المياه العذبة هشاشة وتأثراً بمظاهر التلوّث. يرافق مارشي نساء ورجال نذروا حياتهم لبعث قليل من الأمل في إعادة الحياة إلى النهر، إلى أنْ يصل إلى مشهد من داخل صفّ في "المدرسة العليا للأساتذة"، يُثير فيه أستاذٌ انتباهَ طلبته إلى أنّ "كتلة أوليت دو غوب الجليدية"، التي تعدّ أحد أهم منابع نهر "بو"، مُهدّدة بالذوبان كلّياً بعد 30 عاماً فقط، لكنّ نفاد بطارية المحمول يُهدّد بانقطاع عرضه. لمحة ذكية للطابع الاستعجالي لمعضلة الكتل الجليدية.
يضبط دومينيك مارشي إيقاع فيلمه على مشاهد تأملية، يغدو لجريان الماء فيها مفعول شبه تنويمي، كأنّه يلفت الانتباه إلى هذه المادة السحرية والأساسية للحياة، حتى نراها بعين جديدة، ونعيد التفكير في علاقتنا معها قبل فوات الأوان. ما يبدو أنّه منظر مألوف لنهر طبيعي، هو في العمق مجرى لحياة معقدّة وهشّة، تزخر بكائنات غير مرئية، يتأثّر توازنها بتصرّفاتنا، ومن مسؤوليتنا الحفاظ عليه.
لعلّ قيمة الوثائقيات الكبرى تكمن في لفتة الاقتراب من الأشياء، لرؤيتها من وجهة نظر مختلفة عن التناول الإعلامي المتسرّع أو الاعتيادي، وأخذ الوقت اللازم (لطول اللقطات دور حاسم في ذلك) لتأمّلها. هكذا، يغدو الماء المنساب شخصية رئيسية بالغة التأثير، لا صوت لها غير أقوال البشر الملتزمين بقضيتها. تقول شخصيات "النهر" كنوزاً: "الماء عبارة عن مجرى وليس خزّاناً رهن إشارة الإنسان"، "على الإنسان أنْ يتكيّف مع المناخ، لا العكس". أقوال تبدو بديهية، لكنْ جُلّ سياسات الإنسان تمضي في الاتجاه المعاكس لها.
في مشهدٍ ليلي بديع يختم الفيلم، نلتقي بعثة من علماء الطبيعة، المختصين بدراسة الحشرات، نَصَب رئيسها قماشاً أبيض، مع إضاءة مُسلّطة عليه، ليغدو شاشة داخل الشاشة (خاصة في قاعة سينما)، ترسو عليه الحشرات من شتّى الأنواع (بعوض، فراشات ليلية، إلخ.)، بينما يسعون إلى تصنيفها وتوضيح المُهدَّدة منها. الحشرات تقع في الصفوف الأولى لـ"الانقراض الهولوسيني"، أو الموجة السادسة من الانقراض الجماعي، إذ "اختفى 80 بالمائة من الأنواع الحشرية، التي تعيش في أوروبا، في الأعوام الـ30 الأخيرة".
يوجد في "نهر" دومينيك مارشي ما لا يوجد في بحارٍ من الأفلام الوثائقية الإيكولوجية، التي تُنجز سنوياً. سرّ ذلك إيقاعٌ سلس، يلتصق بعيش الشخصيات التي التقاها المخرج وطاقمه الصغير (مدير التصوير مارتن رو، ومهندسا الصوت ميكاييل كاندلْمان وغييوم فالي) على ضفاف الأنهار، من دون أسلوب الأطروحة، أو سعي إلى المناورة. لكنّه ينطوي على لفتة سينمائية من فئة السهل الممتنع، التي تنفذ إلى عمق الأشياء، وتستخلص حقيقتها، ويقول المخرج عنها: "الكاميرا أداة للرؤية. في حالتي الخاصة، إنّها أداة لتركيز الانتباه. يتماشى اختيار النسبة الباعية 1.37 مع هذه الروح: تركيز الإطار. "النهر" فيلمٌ يلفت الانتباه. فيلمٌ حول أناس يشاهدون الأشياء. يمكن أيضاً أنْ ننظر إليه كفيلم جردٍ حول عمليات جرد".