الموسيقيون والإدمان... الألم بجرعات كبيرة

18 يوليو 2021
رحل نات كينغ بسبب التهاب الرئة نتيجة تدخينه الشره للتبغ (Getty)
+ الخط -

وكأنّ القرار أتى كعهدٍ أريدَ له أن يسري بدءاً بالرابع من يوليو/تموز، أي يوم الاستقلال في الولايات المتحدة الأميركية. ففي اليوم الذي يليه، الخامس من يوليو لهذا العام ومن حسابها على "إنستغرام" أعلنت صديقة عازف الغيتار الكهربائي النجم سلاش Slash، عضو فرقة الـ غنز -آند- روزس Guns’n Roses الشهيرة لموسيقى الهارد روك، عن إتمام صديقها خمس عشرة سنة متتالية، امتنع فيها عن تناول الكحول والمخدرات.

في تقرير أعدته سنة 2015 إدارة الخدمات الصحية الأميركية المتعلقة بمسائل الإدمان والصحة العقلية Substance Abuse and Mental Health Services Administration، أشارت من خلاله إلى الاستهلاك الزائد للكحول كواحد من أخطر أنواع الإدمان وأكثرها انتشاراً بين المشتغلين في الصناعة الفنية؛ إذ أقرّت نسبة العشر من بينهم بتناول الكحول على نحو زائد. أما نسبة المدمنين على المخدرات المحظورة فتتجاوز الـ 13%.

على مدار العام، عانت نسبة الـ 12% من بين الفنانين الأميركيين اضطرابات ناتجة عن الإدمان على المخدرات أو الكحول؛ نسبة تُعد الثالثة لجهة الارتفاع بين شرائح المجتمع المختلفة. من جهة أخرى، فإنّ عدد الوفيات من بين مشاهير الفن، وذلك بحسب دراسة كان قد نشرها موقع "سياسات العلاج والمنع من سوء استخدام العقاقير والمواد الكيميائية" Substance Abuse Treatment, and Prevention Policy، قد بلغ في الفترة بين عامي 1970 و2015  الثلاثمائة وفاة. أكثر من 36% كانوا من الموسيقيين.

حكاية الموسيقيين مع الإدمان قديمة قدم الموسيقى، إذ إنّ الكحول والمخدرات رافقت أسماءً تألقت عبر التاريخ. يُقال إنّ العبقري الخالد لودفيغ فان بيتهوفن، وهو على فراش الموت قد علق متلعثماً: "واأسفاه، قد جاء متأخراً" وذلك لمّا رأى صندوقاً من زجاجات النبيذ، كان قد أرسل هديةً من قبل ناشر أعماله. عقب رحيله، أجري تشريح كبد الموسيقار، ليظهر أن تليّفاً أصابه جراء اجتراعه الزائد من الكحول.

حتى أنّ أعمالاً موسيقية بعينها، ارتبطت بالمخدرات، ظروفاً وموضوعات. أشهرها ربما السيمفونية الفانتازيّة للمؤلف الفرنسي هيكتور برليوز (Hector Berlioz ،1803-1869) التي جسدت مشهديات ذاتية أقرب إلى الهلوسات، يُعتقد أنّ المؤلف قد عاشها بنفسه تحت تأثير الأفيون، المخدر الأكثر رواجاً في عصره. في رسالة لوالده، يصف برليوز حالته النفسية؛ إذ يقول: "أرى نفسي في مرآة. عادة ما أختبر أشد الانطباعات خرقاً للطبيعة، والتي لا تستطيع أن تمدّني بأيّ فكرة؛ إحساسٌ شبيه بذلك الذي يُحدثه الأفيون".

خلافاً لما يمتع به عمالقة كبار في عالم الجاز، كالراحل مايلز ديفيس Miles Davis  وهيربي هنكوك Herbie  Hancock، من قدرة على التعامل مع مشكلات الإدمان بشيء من السيطرة النسبية والإمساك بزمام الأمور المتعلقة بالعمل والإنتاج الفني، فإنّ العديد من أساطير الجاز كانوا قد قضوا نتيجة للكحول والمخدرات، بصورة مباشرة أو غير مباشرة. نات كينغ كول (Nat King Cole، 1919–1965) مغني الجاز الأشهر في حقبة الخمسينيات، بقدر ما نُسبت خامة صوته الأجش إلى تدخينه الشره، بقدر ما كان الاستهلاك المسهب للتبغ سبباً في وفاته بالتهاب الرئة.

تشارلي باركر Charlie Parker 1920-1955 عازف الساكسفون الأشهر في جنس الهيب هوب كان قد خاض صراعاً مريراً مع الإدمان على الهيروين، إذ نُقل إلى المستشفى مرات عدة، ورفض عدد من نوادي الموسيقى دعوته إلى العزف، إلى أن انهار مرة وحاول قتل نفسه، قبل أن تقتله نوبة قلبية وهو في الرابعة والثلاثين.

أما موسيقيو البوب والروك أند رول؛ فحدّث ولا حرج، آخر الضحايا وأشهرهم هو الأسطورة برنس Prince 1958-2016؛ ففي سن السابعة والخمسين سقط برنس في داره ميتاً بعد تناوله جرعة زائدة من مسكن الآلام أفيوني التركيب والمسمى بـ"فانتانيل"، واحد من جملة عقاقير مسكّنة أثار وصفها المسرف وغير المسؤول من قبل الأطباء في الولايات المتحدة جدلاً واسعاً على مستوى الأمة، أفضى أخيراً إلى سلسلة من الملاحقات القانونية والغرامات المكلفة طاولت الشركات المنتجة. قبل برنس، راحت قامات عالية ومواهب فريدة ضحية مواد مُكيفة للعقل شبيهة، كالهيروين والكوكايين.

من بين أهم العوامل التي تجعل الموسيقيين عرضة للإدمان بأشكاله، هو الحساسية العالية والضغط النفسي اللذان يُميزان أجواء العمل الفني. الأنا لدى الفنان هي بمثابة رأسماله. بها يخلق أعماله. وعليه؛ فإنّ بروزها عارية في واجهة معترك الحياة يجعلها هشة عرضة للانكسارات المتتالية والصدمات، إزاء اتساع الهوة بين واقعية العالم المادي وسرمدية الخيال الإبداعي. إضافة إلى ألق الشهرة، التي قد يُحجب ضوؤها عن الفنان، تلك النواظم الصغرى والقوانين العملية البسيطة التي تُسيّر العيش، من إدارة الموارد المالية وتنظيم المواعيد اليومية، إلى الواجبات الاجتماعية والالتزامات الأسرية.

العامل الثاني هو سعة الاهتمام الذي يحظى به الفنانون من قبل الشرائح الاجتماعية المختلفة، بسبب فرادة النشاط الذي يشتغلون به والغموض الذي يكتنف سيرورة الإبداع. الأمر الذي يُكبّر ممارساتهم المضرّة وسلوكياتهم الخاطئة في منظور عدسة العبقرية والجنون التي من خلالها يرصدهم الناس، مستهلكين أخبارهم وفضائحهم في ثقافة رأسمالية تستفيد من تسليع حيوات المشاهير.

في الفصل المعنون بـ "الشخصية والضغوط النفسية لدى المؤدين" من كتابه "سيكولوجية فنون الأداء" يُعلق كاتبه مغني الأوبرا وعالم النفس، غلين ويلسون، قائلاً في هذا الصدد: "لا تعد المشكلات الشخصية للمؤدين بأيّ حال من الأحوال أكبر من تلك المشكلات الخاصة بأي شخص آخر. كلّ ما في الأمر هو أنّه يتم تسليط الضوء على هذه المشكلات الخاصة بهم على نحو قوي، وذلك لأنّها (المشكلات) تجعل المؤدين أكثر إثارة للاهتمام".

ثالثاً، عادة ما تعجز العامة، أمام وهج النجومية والاستعراض الصادر عن خشبة المسرح، عن لمس شدة الآلام الهيكلية والعضلية ذات المنشأ المهني والمتعلقة بالأداء الفني والموسيقي. من حملٍ لبعض الآلات على الكتف، أو رفعٍ بعضها الآخر بالأذرع والأيدي، وحتى الأصابع، ناهيك عن الجلوس أو الوقوف لساعات طويلة في وضعيات شاذة تستدعيها طبيعة الاستحواذ على بعض الآلات، إضافة إلى التشنجات والتقلصات التي تنتج عن الانفعال والتعبير الفني أثناء سير الأداء.

تُصيب تلك الآلام المزمنة معظم الفنانين من موسيقيين ومؤدين وتؤدي بهم، بحسب مركز علاجات الإدمان الأميركي، إلى تداول العقاقير المسكّنة والمخدرة للألم، وتُسهّل عملية الحصول عليها بوصفات طبية قانونية. من شأن ذلك أن يقود إلى زيادة الجرعات اطراداً، وصولاً إلى مراحل متقدمة من الإدمان، تؤول إلى الاستعاضة عن المسكنات بالمخدرات غير القانونية.

أفضل سبل التعامل مع مجمل تلك الضغوط النفسية والبدنية، بعيداً عن الوصفات المسكنة وسائر العقاقير المكيّفة للعقل، يكمن بعدم إهمال الجانب السيكولوجي والفيزيولوجي من كليّة الفعل الإبداعي. جانبٌ يتطلب صيانة مستمرة ومنهجية تقوم على التغذية السليمة والرياضة الروحية أولاً، كالتأمل وممارسة تمارين التنفس والاسترخاء، والفيزيائية ثانياً بأنواعها، التي لا تشكل إجهاداً للمفاصل والعضلات الدقيقة، من اليوغا الحديثة إلى السباحة والجري وركوب الدراجة الهوائية.

المساهمون