The Unanswered Question، عنوان السلسلة التلفزيونية الموسيقية التثقيفية، التي بُثّت في الولايات المتحدة أواخر سبعينيّات القرن الماضي. عبارة عن ست محاضرات، عُرِفت بمحاضرات هارفرد (نسبة إلى الجامعة الأميركية المرموقة) أعدها وقدمها المؤلف، عازف البيانو وقائد الأوركسترا الأميركي ليونارد بيرنشتاين (1918-1990).
وبما أنّ عنوان السلسلة مُقتبسٌ من مقطوعة بذات الاسم، للمؤلف الأميركي تشارلز آيفز (1847-1954)، فقد ختم بيرنشتاين السلسلة بخلاصة وداعية. من خلالها، سمح لنفسه، استعارياً، بالإجابة عن السؤال (العنوان) كما لو تعلق بمستقبل الموسيقى تحديداً؛ فأجاب بأنه نعم، ثمة للموسيقى مستقبلٌ زاهر، يهبط بها إلى أرض السُلّمية والانسجامات الطبيعية، بعدما فارقتها، منتصف القرن العشرين، إلى غياهب التجريد والتجريب والتغريب. عساها أن تعود من جديد، لتكوّن البُعدَ الشعري للعالم.
إلّا أنّ ما لم يكن ليُدركه بيرنشتاين، من منظوره أواخرَ سبعينيات القرن الماضي، أن مستقبل الموسيقى، قد يحمل معه أيضاً نبأ موت العازف. الموت هنا هو موت الدور، أو انكفاؤه إلى حد كبير، الذي أُسند إلى الموسيقي العازف في تأويل وأداء وتقديم المؤلَّف الموسيقي إلى المُستمع، سواء من على خشبة مسرح في صالة، أو عبر سماعتَي رأس، أو أذنين، وُصلتا بكمبيوتر أو جوّال ذكي.
يعود ذلك إلى أن سيرورة تطور الموسيقى المعاصرة، وإن أخذت فعلاً، كما رآها مُقدّم السلسلة التلفزيونية الشهيرة، تُبدي احتمالات العودة إلى حضن السُلّمية أو المقامية، وجملها اللحنية التي ألِفتها الأذن البشرية واستساغتها على مدى قرون، إلا أنها أخذت بالمقابل تُغيّر من أنماط الكتابة لتبدو أقل استدعاءً لمهارات الأداء، أو حرصاً على إظهارها. تحاكي بذلك أكثر فأكثر، من جهة الشكل والصوت، الموسيقى التي عادة ما تصدر عن أزرار الخافتات والمُنمّطات (Modulators, Faders) في أجهزة الموسيقى الإلكترونية.
في الدورة الحالية لمهرجان برلين للموسيقى (Das Musikfest Berlin) التي انطلقت في 28 أغسطس/آب الماضي، وتتواصل حتى 19 أيلول/سبتمبر)، عُرِضت مقطوعتان معاصرتان تُدللان على الظاهرة. الجامع بينهما هو، أولاً، أنهما عملان عظيمان من ناحية العمران الموسيقي والكمون التعبيري. ثانياً، أنهما يشتركان بقربهما من مدرسة حداثية في التأليف الموسيقي، ذاع صيتها في فرنسا منتصف خمسينيات القرن العشرين، تُعرف بال "الطيفية" (Spectral)، وهي أسلوب كتابة موسيقية، تُعلي شأن لون الصوت فوق العناصر الموسيقية الأخرى، كاللحن، الشدة، السرعة، الإيقاع والانسجام، أو الهارموني.
المقطوعة الأولى للمؤلفة الفنلندية المُقيمة في العاصمة الفرنسية باريس، كايا سارياهو (Kaja Saariaho)، بعنوان "أوريون" (Orion). قدمتها أوركسترا كونسرت خيباو الهولندية بمستهل حفل الافتتاح. أثرها العميق، يكمن في العوالم السرمدية التي ترسمها ألوان الآلات الأوركسترالية بأصواتها المتنوعة. مشهدية صوفية، تُطعّمها سارياهو بين الحين والآخر، بأجيج دراميّ، عبر إدخال أنماط إيقاعية بسيطة، ثابتة ومُتّسقة، تتكرر بصورة لولبية، تذكر بمدرسة أخرى للتأليف، هيمنت بدورها على الموسيقى المعاصرة، تُعرف بـ"الأدنوية" (من أدنى) أو "المينينالية" (Minimalism).
كِبر الأثر الجمالي للمقطوعة، مقابل صِغر الدور الذي يضطلع به العازف في صنع ذلك الأثر، عبّر عنه أحد أعضاء فرقة كونسرت خيباو الهولندية، العازف في قسم الكمان الأول، مارك دانييل فان بييمن Marc Daniel Van Biemen؛ إذ علّق بعد انتهاء الحفل: "وقع مقطوعة أوريون على الأذن عظيم، إلا أن عزفها أمرٌ مُملٌّ للغاية". السبب في ذلك يعود إلى أن الموسيقى لا تتطلّب الكثير من مهارات الأداء، كذلك فإنها لا تستدعي التبدّل في الأمزجة، الذي من شأنه أن يُغيّر من مستويات الطاقة التعبيرية، فيحول دون الرتابة خلال العزف.
أما المقطوعة الثانية، التي نعت الفنان العازف، فهي تحفة أوركسترالية للمؤلف الهنغاري الحداثي غيورغي ليغيتي (György Ligeti / 1923-2006) بعنوان "مناخات" (Atmospheres)، قدمتها ضمن أماسي مهرجان برلين، فرقة هولندية أخرى هي الأوركسترا الفيلهارمونية لمدينة روتردام مساء الأحد (4 سبتمبر/أيلول). تعد المقطوعة نموذجاً لاستلهام الحركة الطيفية في الموسيقى الحداثية. من خلالها، قدّم ليغيتي أول ستينيات القرن الماضي، أسلوبه الشهير بين أوساط المؤلفين المعاصرين، والمعروف بـ"تعدد الأصوات المكروي" (Micropolyphony).
أسلوب ليغيتي هذا، يقوم على استبعاد عناصر ثلاثة، اعتُبِرت جوهرية في ماضي الكتابة الموسيقية القريب، هي اللحن، الإيقاع والانسجام. بذلك، تؤول الموسيقى بُقعاً لونية عائمة في الصمت. تتداخل مع بعضها، تذوب بعضها في بعض، تُسفر عن رؤى لمنافذ غيبية، نحو عوالم ماورائية، أو أعماق داخلية سحيقة، تتجاوز مملكة الشعور.
وبينما تتناهى الشحنة العاطفية والحمولة الفكرية الكامنة بين ثنايا الأطياف اللونية، ترى جموع العازفين على خشبة المسرح، بالكاد يحرّكون إصبعاً على مقابض الآلات، أو يجرّون قوساً على الأوتار.
هي، إذاً، أشبه بموسيقى تؤدى من على وحدة تحكم إلكترونية (Mixing Console) لمزج الأصوات، والتلاعب بقيم تحدد طبيعتها، كالطول والشدة والحدة والصدى، إنما بمقاييس كونية، نظراً للإمكانات التعبيرية، التي توفرها الآلات الحية. ذلك ليس غريباً على المؤلف الهنغاري، فقد قضى سنين من حياته في المدينة الألمانية كولون "حاضرة الموسيقى الإلكترونية" زمان الستينيات من القرن الماضي، يختبر مجالات إنتاج الموسيقى عبر أجهزة تركيب الأصوات، وتصميمها كهربائياً.
لئن كانت الموسيقى الآلية الأوركسترالية المعين اللوني الذي ظل ينهل منه الرواد في مجال هندسة الصوت عبر الأجهزة الإلكترونية، عمد ليغيتي عبر "مناخات" إلى اعتماد المخرجات الأسلوبية للأجهزة الإلكترونية ذاتها، معيناً للكتابة الآلية الأوركسترالية. السؤال الذي يرشح هنا: ما دور العازف المؤدي في مستقبل الموسيقى، إن كان ثمة له من دور أصلاً؟
مع التطور المطرد في تقنيات محاكاة المهارات البشرية، ومجالات "التعلم الذاتي عند الآلات" (Machine Learning) كأني بالسيرورة التكنولوجية باتت من جهة، تُقرّب الكمبيوتر من الاضطلاع بدور الأداء الموسيقي، في حين أن أساليب الكتابة الموسيقية المعاصرة، من طيفية ومينيمالية، أخذت تُبعد دور الأداء عن البشر، أو تُعدِم جدواه.
لعلّ كلّ من السيرورتين الموسيقيتين، التكنولوجية والأسلوبية، ستوجّه مساعي البشر في الأداء نحو العزف الانفرادي، أكثر منها جهة الانضواء ضمن التشكيلات الجماعية الكبرى.
بهذا، تصير الآلة الموسيقية شبيهةً بحنجرة المغني، تُصدِر صوت المؤدي الخاص، فتُصبح وسيلته المباشرة في التعبير عن ذاته. لعل ذلك أيضاً، سيقود العازف إلى إبداع موسيقاه الخاصة، ثم أدائها منفرداً، مثلما ينظم الشاعر قصيدةً، ثم يشرع في إلقائها. فيما سيُسند إلى آلات من دون عازفين، دور المرافقة.
وكما أنّ إجابة بيرنشتاين بنعم لم تف بعد؛ إذ على الرغم من عودة كثيرٍ من المؤلفين المعاصرين إلى حضن السلّمية والمقامية والانسجام المستساغ، فإن النفور والنشاز، وحتى الضجيج المحض، لا يزال يُسمع في كثيرٍ من الأعمال، خصوصاً تلك التي تندرج اليوم تحت وصف "الموسيقى الجديدة" (Neu Musik). كذلك هو دور العازف، وإن أخذ يموت تدريجياً، إلا أنه حتماً لن ينقرض، على الأقل ليس غداً. بيد أنّ من الجلي، أنّ التكنولوجيا باتت تؤمن للتعبير الموسيقي وسائل جديدة؛ فمثلما لم تعد الفرشاة، الأداة الوحيدة بيد الفنان التشكيلي في زمنِ الفن المفاهيمي، لن تعود الكمان، الأوبوا أو بوق الهورن، إلى ذات المركزية التي شغلتها في الأمس.