استمع إلى الملخص
- ترأست لجنة التحكيم المخرج الإيطالي لوكا غوادانيينو، وركزت المسابقة الرسمية على الطرح السياسي، حيث فاز فيلم "ينعاد عليكو" بجائزتين، بينما حصل "تحت البركان" على جائزة أفضل إخراج.
- تميز المهرجان بتكريمات مؤثرة، منها للممثلة الراحلة نعيمة المشرقي والممثل شون بَن، مما أضاف بعدًا إنسانيًا وثقافيًا للمهرجان.
في عشرة أيام، عاشت المدينة الحمراء على إيقاع السينما، وكرّست الدورة الـ21 (29 نوفمبر/تشرين الثاني ـ 7 ديسمبر/كانون الأول 2024) لـ"المهرجان الدولي للفيلم بمرّاكش" طموح هذه التظاهرة، لتتبوأ مرتبة رفيعة بين المهرجانات السينمائية العالمية. طموحٌ تعكسه أولاً قيمة الأسماء الحاضرة، والرهان على توجّه ينسحب على كلّ الأقسام، ويستمدّ قوته من تناقضه الظاهر: وضع أفلام ومشاريع مخرجين يتلمّسون خطواتهم الأولى أمام سينمائيين من الصف الأول، في المسابقة الرسمية وبرنامج "ورشات الأطلس" ولقاءات "حوار مع..."، وهذا يعكس الاتّجاه الاستراتيجي للمهرجان لوضع الشباب في صلب اهتماماته. هذا بدا واضحاً بالحضور المتزايد لطلاّب السينما والسينفيليين الشباب في مختلف الأنشطة.
المسابقة الرسمية: "كيف وصلنا إلى هنا؟"
منذ اليوم الأول، أظهرت الندوة الصحافية للجنة التحكيم، برئاسة المخرج الإيطالي لوكا غوادانيينو، تنوّع مقاربات أعضائها، واختلاف وجهات نظرهم للسينما. تألّفت اللجنة من المخرجين علي عباسي (إيران/الدنمارك) وزويا أختر (الهند) وسانتياغو ميتري (الأرجنتين)، والممثلين باتريشيا أركيت (أميركا) وفيرجيني إيفيرا (فرنسا) وجاكوب إيلوردي (أستراليا) وأندرو غارفيلد (بريطانيا/الولايات المتحدة الأميركية) ونادية كندة (المغرب).
التنوّع محمود بحدّ ذاته، ويعد بنتائج تكافئ رؤى ومشارب متنوّعة، خاصة أنّ مسابقة المهرجان معنيّة بالأفلام الأول والثانية لمخرجيها. معلومٌ أنّ السينمائيين المبتدئين يجنحون غالباً، في خطواتهم الأولى، إلى المجازفة والتجريب، ما يجعل "الحكم" على أعمالهم أصعب وأعقد من التعامل مع أفلام مخرجين مُكرّسين. أقوى ما في الندوة قولٌ لأركيت، التي وعدت بأنّ تنتبه إلى لمسة الهشاشة والانجراحية التي تميّز أفلام المسابقة (14)، ما يُذكّر بنظرية الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، الذي يقرن تميّز الأفلام السينمائية بمفهوم الثغرة (La Faille)، الكامن في قلبها. من جهته، صرح رئيس اللجنة أن العدوّ الوحيد اليوم يتمثّل بسينما مُصنّعة وقوى تنميط الأفلام، بينما التقى ميتري وعباسي على أنّنا نعيش في عالمٍ أصبح صعباً فيه الفصل بين التزام الطرح بالمعنى السياسي، وانتهاج شكل خارج القوالب الاعتيادية، باعتبار هذا الموقف أسمى أشكال التعبير عن مقاومة قوى اليمين المتطرف، الساعية إلى فرض رؤيتها التسطيحية للعالم، بدعم خطاب متماهٍ مع إيديولوجيتها الاستهلاكية.
رغم أنّ النتائج عكست قدراً من التنوّع، بدا تغليب الطرح السياسي، وأجواء التأثّر بالنزاعات في العالم، واضحاً عبر خطابات المُتوّجين وحمولتها الملتزمة. انعكس ذلك خاصة في تتويج فيلمين بجائزتين لكلّ منهما: "ينعاد عليكو" للفلسطيني إسكندر، الفائز بالنجمة الذهبية ـ الجائزة الكبرى وأفضل أداء نسائي مناصفة بين منار شهاب ووفاء عون، و"تحت البركان" للبولندي داميان كوكور: أفضل إخراج وأفضل أداء رجالي لرومان لوتسكي.
يسرد "ينعاد عليكو"، الفائز بجائزة أفضل سيناريو في "آفاق" الدورة 81 (28 أغسطس/آب ـ7 سبتمبر/أيلول 2024) لـ"مهرجان فينيسيا"، أربعة فصول تتقاطع فيها مسارات شخصيات من مجتمع فلسطينيي الداخل مع شخصيات إسرائيلية، عبر خطَّي حكي يجريان بين حيفا والقدس المحتلة، يعكسان توتّرات عائلية، وشبه استحالة توافق بين الثقافتين، ووطأة التقاليد المتوارثة لكليهما، رغم اختلاط اللغتين العربية والعبرية في الحوارات الكثيفة. رامي مرتبط بعلاقة مع شيرلي، يُفاجأ بخبر حملها، ويحاول إقناعها هاتفياً بالإجهاض. لكنّ مآل هذه العلاقة تعكس نظرة قاتمة جداً لإمكانية التعايش بين الثقافتين، في ظلّ شخصية ميري أخت شيرلي المستحوذة التي تحاول تفهم دواعي اكتئاب ابنتها ورفضها قبول التجنيد. يختبر رامي انعكاسات تردّده في إنجاب طفل وسط أجواء التمييز العنصري، والنظرة الدونية للفلسطينيين كمواطنين من الدرجة الثانية، على جسده، عند الاعتداء العنيف عليه من مجهولين يكسرون يده. في هذا، يُرى رجع صدى القمع المنهجي الذي يتعرّض له الفلسطينيون اليوم.
القصة الثانية الرئيسية عن تقارب عاطفي بين فيفي (منار شهاب)، شقيقة رامي، التي تشتغل مساعدة في روضة أطفال، ووليد الطبيب الذي يساعدها في استخراج تقرير طبي عن تعرّضها لحادث سير يبدو بسيطاً لوهلة أولى، لكنّ تداعياته على علاقة الحبّ الناشئة ومشروع الخطوبة بين العشيقين ستكون مدمّرة. الإجهاض كلمة مفتاحية للفيلم الذي يقدّم مجتمعاً إسرائيلياً تُعدم فيه كلّ معاني العلاقات الإنسانية، وتُلقَّن في وسطه مبادئ الحرب لأطفال ناشئين أمام فيفي العاجزة. قبطي لا يغفل انتقاد التقاليد البالية للمجتمعات العربية، وسطحية نظرتها إلى شرف المرأة، والقيود التي تفرضها على حرية اختيارات الحبّ والعيش. ولعلّ في المشهد الأخير (تتقدّم فيفي وسط إسرائيليين يقفون في الشارع استجابةً إلى إنذار بقصف صاروخي) نظرةً لا تخلو من تفاؤل بمستقبل أشرق لفتاة عربية، قاومت ضغوط عائلتها، وفي مقدمتها أمها المتحكّمة (وفاء عون)، مقارنة بمجتمع متكلّس وجامد، يتقوقع حول هوية عنصرية ضيقة، قوامها إيديولوجيا القوة العسكرية وكراهية الآخر.
بعد تسلّمها الجائزة، نيابة عن المخرج، أعربت منى قبطي، الشريكة في كتابة السيناريو، عن سعادتها بهذا التتويج في مواجهة الواقع القاسي للاعتداء المستمرّ في غزة: "رغم فرحنا الكبير بهذا التقدير، نقف هنا، مع ما نشهده من فظائع وجرائم في حق شعبنا والإنسانية ككل، ونتساءل في ظلّ عجزنا: كيف وصلنا إلى هنا؟ كيف أصبح التجريد من الإنسانية شيئاً عادياً؟ كيف أصبح القتل والدمار والتشريد مشهداً مقبولاً؟ كيف فقدنا البوصلة؟ (…) نأمل أنْ يُجيب "ينعاد عليكو" على بعض الأسئلة، بتسليط الضوء على تداعيات التلقين في المجتمعات، وتأثيرها على سلوكيات الأفراد، لا سيما في مجتمعات لا تزال النساء فيها مقيّدة بأسر عادات وتقاليد تلغي حرياتها الشخصية". واختتمت قبطي كلمتها بالقول: "نضالنا مترابط، والتحرّر الحقيقي لا يتحقّق بمعزل عن الآخرين. لا أحد منا حرّ حتى نكون جميعنا أحراراً، وخاصة النساء بيننا (…). شكراً للمهرجان، وللجنة التحكيم، لتقديمهما منصة لأصواتنا المقهورة، كي تُسمع".
أفلامٌ جيدة من دون جوائز
جائزة لجنة التحكيم مناصفة لفيلمين يعكسان بدورهما همّاً سياسياً مُتجذّراً، لكنهما يبلوران مقاربتين جماليتين أكثر راديكالية. "القرية المجاورة للجنة"، أول فيلم للصومالي مو هَراوي، و"الكوخ" للأرجنتينية سيلفينا شنيسر، التي أهدت الجائزة لمن يناضلون ضد اليمين المتطرف في بلدها، والتي تمنّت، متأثّرة إلى حدّ ذرف الدموع، أنْ تساهم في مقاومة سياسة خافيير ميلي الذي يهدّد بتجفيف كلّ منابع دعم السينما.
يحكي "الكوخ" عن تمضية زوجين وأطفالهما الثلاثة إجازة في منزلهما الريفي. لكنّ أحداثاً صغيرة تتعلّق بتوق ابنهما الأكبر إلى إشعال النار، وحديث الابن الآخر أثناء نومه بلسان أناس تعرّضوا للتعذيب، وميل أطفال الجيران إلى قتل الحيوانات الضعيفة، تخلق جوّاً من القلق، قبل أنْ يستيقظا على حدثٍ مأسوي، ربما يكون للأطفال دورٌ فيه. يُعبّر الحكي، عبر نزعة شينسر إلى الغموض والمكانة المهمّة الممنوحة لخارج الحقل، عن ترسّبات فترة الديكتاتورية العسكرية في الأرجنتين، وأشباحها العائدة لتقضّ مضجع الحاضر من وجهة نظر أطفال، ما يُذكّر بتقليد عريق للسينما الإيبيروأميركية، ويجعل المثل الإسباني، الذي اقتبس منه كارلوس ساورا عنوان رائعته Cria Cuervos ("ربِّ غرباناً"، 1976)، ينسحب إلى حدّ كبير على حكي "الكوخ": "ربِّ غرباناً، وسينتهون بانتزاع عينيك".
غابت عن التتويج أفلامٌ جيدة، توقّع متتبّعون فوزها بجائزة أو أكثر، لتميّز مقارباتها الفنية، لعلّ أهمها "مُلزمة في السماء" للصينية هيو شين، الذي يعرض طرح تحرر جسدي وعاطفي، في قصة سيدة أعمال، تعاني سوء معاملة زوجها، تقرّر الهرب مع رجل يعاني مرضاً عضالاً، فيخوضان مغامرة استكشاف مكثّفة للحياة والموت. ثم "البحر البعيد" للمغربي سعيد حميش، المؤثّر بصدقه وتأثيره العاطفي، وبسُمكه الزمني المشدود بموسيقى الراي للمغربي. و"نهاية سعيدة" للياباني الواعد جداً نيو صورا: أبدع أفلام المسابقة في التقاط تيمة قلق الشباب واضطرابهم، التي تعبر كخيط أحمر جُلّ تلك الأفلام. حكايته في طوكيو في مستقبل قريب شبه ديستوبي، وميكروكوسم ثانوي تستفحل فيه وسائل المراقبة التكنولوجية، المنتهكة خصوصية التلاميذ وآدميتهم، خاصة أولئك المتحدّرين من زواج مختلط مع جنسيات أخرى (أميركية، كورية، إلخ) في كسر تابو متجذّر في الثقافة المحافظة لبلد الشمس المشرقة.
في أحد أجمل حواراته، تُوبِّخ فومي، المتعاطفة مع المختلطين، زميلها كو، ذي الأصل الكوري (يطلق عليهم "زاينيشي"، ويمثّلون ثاني أقلية عرقية في اليابان بعد الصينية)، بسبب استسلامه وانشغاله بما تراه تفاهات تعوق مشاركته في حركة المطالبة بحقوق التلاميذ. يُطرق كو للحظات قبل أنْ يجيبها: "حتى أنت يا فوميلا تثقين في الجيل الجديد"، في إيحاء رائع إلى أنْ أول من يصدر أحكام قيمة على الشباب هم من يدّعون الدفاع عنهم.
أما محمد حمدي، المصري ذو الخبرة الحافلة كمدير تصوير، فقدّم أوراق اعتماد متينة بوصفه مخرجا، بفيلمه الأول الاستثنائي "معطّراً بالنعناع". فيلمٌ من الفئة النادرة، التي يكمن جمالها في غرابتها، وغرابتها في جمالها، حيث لا يمكن فصل الطرح المهم عن الاغتراب، وسط مدينة بالكاد تُميّز فيها ملامح القاهرة، عن شعرية الحوار، وأجواء آسرة نُحتت من ضوء وظلام ودخان، تقول الكثير عن شعور جيل ما بعد إحباطات الربيع العربي.
تكريم وبرامج أخرى
شكّلت تكريمات الدورة الـ21 لحظات اعتراف لا شكّ أنّها ستظلّ راسخة في ذاكرة المهرجان. دموع ياسمين الخياط في الاحتفاء بذكرى والدتها نعيمة المشرقي، الراحلة في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول 2024، بعد أنْ بصمت أعمالاً مغربية مهمة بأدائها المرهف.
الممثل الأميركي الأسطوري شون بَن، الذي أعرب في الندوة الصحفية عن تأثّره بتكريمه رغم نفوره من المراسم الاحتفائية عادة، وطابعها "التكفيني". لكنّ مهرجان مرّاكش استثناءٌ، "لأنه يفعل ذلك جيداً"، مُبدياً إعجابه الشديد بالفيديو التجميعي لمشاهد قوية من مساره. بينما قال المخرج الكندي ديفيد كروننبيرغ، رافعاً النجمة الذهبية، إنّ "مسرح قصر المؤتمرات في هذه الأثناء مليء بالوحوش والكائنات التي تمثَّلها في مسيرته، رغم أنّ الحاضرين لا يرونها"، موضحاً أنّه انبهر بلائحة المكرّمين، وقيمة السينمائيين الذين حصلوا على النجمة الشرفية.