في مدّة قصيرة، أصبح مراد مصطفى (القاهرة، 1988) في طليعة الوجوه السينمائية الواعدة، عربياً وفي مهرجانات دولية. يشتغل على مكبوت المجتمع المصري، ويرصد مآزقه وتصدّعاته في بيئاتٍ ونفوس متنوعة. منذ فيلمه الأول، "حنة ورد"، برزت ملامح التجديد في الرؤية والتصوير، بجعله الكاميرا أشبه بجسدٍ حيّ يتوغّل بخفّة وسلاسة في الاجتماع المصري، ويلتقط نتوءاتٍ صغيرة، صانعاً المُتخيّل المرئي وفق عناصر فنيّة مختلفة، ومعالجات متباينة، مع أنّ المشترك في أفلامه القصيرة يرتبط عضوياً بقاع المجتمع المصري وخيباته، كما في جديده، "ما لا نعرفه عن مريم"، المليء بالجرح والوجع.
بمناسبة جديده، التقت "العربي الجديد" مصطفى في هذا الحوار:
ماذا عن بداياتك في السينما؟ كيف ولماذا ومتى دخلت الإخراج السينمائي، وراكمت فيه أفلاماً قصيرة؟
أعمل في السينما منذ عام 2009، كمساعد مخرج في عشرات الأفلام، مع مخرجين مصريين كمحمد دياب وآيتن أمين في "سعاد" الذي اختير لمهرجاني "كانّ" (2020) وبرلين (2021). أمضيتُ 11 عاماً في هذا المجال، ثمّ أنجزت أول أفلامي "حنة ورد" المعروض أولاً في "مهرجان كليرمون فيران" العام السابق، ثم أنجزتُ فيلمي الثاني بعد أشهر قليلة، "ما لا نعرفه عن مريم" الذي عُرضه للمرّة الأولى في المهرجان نفسه أيضاً، هذا العام.
"حنة ورد" لا يختلف بتاتاً عن "ما لا نعرفه عن مريم" الذي تحافظ فيه على الشغف نفسه بخصوص حركة الكاميرا التي تتجوّل في المجتمع المصري. بداية، كيف فكّرت في الفيلم، كتابة وإخراجاً؟
أسلوب المخرج يُشبه اسماً يرتبط بك ارتباطاً وثيقاً، وربما يولد معه منذ أول فيلم له، ولا يتغيّر. التغيير يحصل في حجم وطريقة حكي المواضيع التي تتناولها الأفلام، ومدى ارتباطها بما يحسّ الناس به. فكرة فيلمي الثاني جاءت عندما كنتُ، ذات مرة، في مستشفى عام، ورأيتُ من تشبه مريم وزوجها. بعد فترة، قرأتُ خبراً في صحيفة عن هروب امرأة من زوجها في مستشفى عام، بعد كشفٍ طبي عليها، أدّى إلى احتدام الأمر بينها وبين زوجها. تأتيني أفكار الأفلام إما من واقع أشاهده، أو من خبر في صحيفة. بالنسبة إليّ، لا تدور السينما حول الحبكة فقط. إنّها شخصيات جذّابة، نراها في حياتنا العامة كأنّها لحظاتٍ سينمائية. تلك اللحظات أتذكّرها دائماً بعد مُشاهدة فيلمٍ أحبّه.
في المعالجة الفنية والجمالية، ما حدود التلاقي بين الفيلمين؟
هناك تلاقٍ كبيرٍ بينهما، أسلوباً وحكياً. تستهويني دائماً طريقة الحكي هذه، المستخدمة في الفيلمين، والمعتَمِدة على تصاعدٍ درامي خفيّ للأحداث التي أفضّل أنْ تكون في يومٍ عادي، أو تبدو كذلك، مع غليان تحت السطح، ينفجر في لحظةٍ غير متوقّعة، تكون كحجرٍ يُلقى في مياهٍ راكدة، فينكشف المجتمع، فتُشير إليها (الأحداث) شخصيات مليئة بتناقضات داخلية، أحبّ إظهارها بشكل محايد، مانحاً المُشاهد مساحة اختيار وتكوينٍ للآراء، بدلاً من فرضها عليه. مساحة تفكير وطرح أسئلة، بدلاً من تقديم إجابات مغلقة. لكلّ شخص أسئلة عن حياته الخاصة. كمخرج وكاتب، لدي فرصة تقاسم الأسئلة مع الآخرين. أحبّ هذه السينما. أسلوبياً، لا يوجد ممثلون محترفون فيهما، وهما من دون موسيقى تصويرية، وصُوِّرا في أماكن حقيقية، من دون كتابة حوار، بالعدسة الـ35 نفسها، لإشاعة إحساسٍ حقيقي، وإضاءة طبيعية تماماً، من دون لمبات ومعدّات مُتعارَف عليها.
ما الذي يبقى عالقاً في السيناريو بالنسبة إلى مخرجٍ، يهُمُّ بتحويل مشاعر وأحاسيس وصُور إلى مَشاهد سينمائية؟
اللحظات السينمائية التي أرى فيها الشخصيات شاردة، تُفكّر وتتحرّك هنا وهناك، في أماكنها، والكاميرا تتابعها، ومن خلال متابعتها، أرصد المجتمع المصري وعاداته وتقاليده، فيحكي الفيلم حينها "الآن" و"هنا".
مُلاحظة نقدية تُسجّل على "ما لا نعرفه عن مريم": غيابُ التكثيف البصريّ، وقدرته على خلق تماهٍ مع النصّ، فالمَشاهد الأولى يطبعها استطرادٌ بصري كثير.
أردتُ أنْ يتسلّل الفيلم في المُشاهد بهدوء، وبإيقاعٍ متناسب مع طريقة الحكي التي أفضّلها، كتفضيلي مساحات كبيرة للصمت. هذا يصنع نوعاً من توتّر خفيّ تحت السطح، فالأحداث تبدو عادية في يومٍ عادي، في حياة هذه العائلة. لذا، اخترتُ تأخير التصاعد قليلاً، والتركيز على لحظات الصمت، وبناء علاقة غير مباشرة بين المُشاهد والشخصيات.
ترتكز جماليّات الفيلم على الصدمة، وما توليه من أهميّة في تمديد خطّ الحكاية، وجعلها تتدفق في نسيج فنيّ في علاقتها بالواقع. إلى أيّ حد تخلق حكاية الفيلم تطابقاً حقيقياً مع المجتمع المصري ومآزقه وأهواله؟
أحبّ دائماً أنْ أصدم المُشاهد، لينتبه. حكاية الفيلم ناقوس خطر للمجتمع كلّه. سأحاول صَدم المُشاهد دائماً، كلّما وجدت الفرصة، في أفلامي المقبلة. أنتمي إلى هذا النوع من الحكي، الذي يُفضّله مخرجون عديدون، وإلى البُعد عن الشاعرية، حتى وإنْ وجدها البعض في أفلامي. هذا مغلّف بعنفٍ مجتمعي، يتطابق مع المجتمعات العربية، التي يغلب عليها الطابع الذكوري. يرصد الفيلم نظرة المجتمع الذكوري إزاء النساء، في الجوانب كلّها وليس فقط في العلاقة الزوجية الهشّة. جزءٌ من الصدمة يحصل في المكان الذي تدور فيه الأحداث. المستشفى مكان للهدوء والراحة والعلاج، أردتُ جعله ساحة معركة عائلية بين زوجين. الفيلم يطمس الخطّ الفاصل بين الخير والشرّ، ويترك للمُشاهد أنْ يُقرّر ماذا يريد. المهمّ، بالنسبة إليّ، أنْ يشعر في مدّة الفيلم أنّه في المجتمع المصري، وأنّ الحكاية تُطابق الواقع إلى حدّ كبير.
هناك غياب كليّ للموسيقى، واقتصار على صوت الفضاء وضجيج الناس. لماذا غياب هذا العنصر الجمالي الذي يُمكنه إيجاد أنماط للصورة، ويجعلها تُثير أحلاماً؟
لا أضع موسيقى تصويرية لأفلامي. أفضّل الصمت بدلاً عنها، أو سماع أصواتٍ حقيقية. الموسيقى التصويرية تمنع المُشاهد من الإحساس بالصمت وصوت أنفاس الشخصيات في الفرح والحزن والعراك والترقّب. آثار هذا على مشاعر المُشاهد مُرضية بالنسبة إليّ أكثر من موسيقى أُجبِره بها على توجيه مشاعره. أفضّل إضافة أغنياتٍ خاصّة بثقافتنا، وأصوات الشوارع الموجودة دائماً في كل مكان، وأصوات أخرى يكون لها مصدرٌ في مشهدٍ ومكانٍ مُحيط بالشخصيات.
تتميّز صورة الفيلم بواقعية مباشرة، رغم ما يطبعها من فنّ وسحر على مستوى تماهي الشخصيات بالواقع الذي تنتمي إليه تخييلياً. كيف يقبض المُشاهد على تشابك التخييليّ بالواقعيّ؟
يتعلّق المُشاهد دائماً بالصورة الواقعية، التي تشبه واقع حياته. دوري أنْ أنقل الواقع إلى الشاشة الكبيرة. طريقتي في التصوير تشبه طريقة الأفلام الوثائقية التي ترصد حياة الشخصيات بشكلٍ حقيقي، من دون تجميل الواقع أو طبيعة الشخصيات. اختياري شخصيات حقيقية، من البيئة نفسها للأفلام والمجتمع، يساعد في بلوغ المصداقية المقصودة في السؤال.
هل تعتقد أنّ المهرجانات الغربية، وفيلمك مُشارك في بعضها، تُراهن على المُنجز السينمائي العربي الجديد الأكثر جرأة، فيما يتعلّق بالجسد والسياسة؟
المهرجانات الغربية تُراهن دائماً على الفيلم الجيد، وعلى ما يُشبه ذائقتها. لكلّ مهرجان شكل وطريقة. لا أعتقد أنّ المواضيع الساخنة تكفي وحدها لإشراك فيلمٍ عربيّ في مهرجان ما، أو فوزه. لا بُدّ أنْ تكون هناك لغة سينمائية مختلفة وأصلية، وهَمّ وطموح واضحان لدى المخرج في القصص التي يختارها، وفي طريقة تناوله إياها.