منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة قبل شهرين، ظهرت بوادر انقسام في المؤسسات الفنية الأميركية، بين داعمي دولة الاحتلال ومؤيدي القضية الفلسطينية، ما أدى إلى حملات توقيع رسائل، وإلغاء لعروض ومشاركات فنية، وكذلك انسحابات وإقالات في عددٍ من المراكز الثقافية والمعارض الفنية في الولايات المتحدة، بحسب موقع فوكس الأميركي.
خلال شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، قرّر فنانون سحب أعمالهم من المتحف الوطني للفنون الذي يتلقى تمويلاً من الكونغرس، احتجاجاً على الدعم العسكري الذي تقدمه الولايات المتحدة لإسرائيل. فيما انسحب الرعاة من حفل توزيع جوائز الكتاب الوطني، بعد أن علموا أن الكتّاب كانوا يخططون للدعوة إلى وقف إطلاق النار في غزة.
اليوم، بعد استشهاد أكثر من 16 ألف فلسطيني في قطاع غزّة، يبدو أن الشرخ يزداد اتساعاً بين الجهتين.
دفعت الهمجية الإسرائيلية آلاف الفنانين والكتّاب إلى مهاجمة العدوان الإسرائيلي، والدعوة إلى وقف إطلاق النار، فيما تعرضت المؤسسات الفنية الأميركية، وكذلك المتاحف والمراكز الثقافية، لاتهامات متعددة بقمع الصوت الداعم لفلسطين والمعارض للاحتلال.
بحسب "فوكس"، أعادت الحرب على غزة الأسئلة والنقاش حول سلطة المؤسسات الفنية الأميركية في هذه اللحظة ودورها.
بين الفنانين والإدارات
قال الناقد الفني والمحرر في مجلة آرت ريفيو، جي جي تشارلزوورث، لـ"فوكس": "صارت المعارض الفنية والمتاحف والأشخاص المسؤولون عن البرامج الفنية أكثر اهتماماً بفكرة أن المؤسسات الفنية والأعمال التي تقدمها لها وظيفة سياسية أو اجتماعية"، وأضاف أنّ النظر إلى المعرض الفني كمساحة منفصلة أو خاصة ومعزولة "فكرةٌ قديمةٌ جداً"، معتبراً أن ذلك ثبت في الصراع الحالي، الذي "أظهر الانقسام بين مصالح المؤسسات الثقافية في أميركا، والفنانين الذين لا يتشاركون معها المواقف نفسها".
ازداد تأثير الصراعات السياسية على المتاحف والمؤسسات الفنية الأميركية منذ وصول دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة عام 2016، ولاحقاً في عام 2019 مع حركة مي تو المناهضة للعنف والتحرش الجنسي، وصولاً إلى مقتل المواطن الأسود جورج فلويد على يد الشرطة والذي أطلق احتجاجات "حياة السود مهمة" في عام 2020. أدى ذلك إلى وضع هذه المؤسسات في موقعٍ حرج، إذ قد يؤدي "قرار خاطئ" بعرض أو الامتناع عن عرض عملٍ ما، إلى خسارة الرعاة والممولين في بعض الأحيان، والفنانين والجمهور في أحيانٍ أخرى.
لكن الأمر اتخذ منحاً تصاعدياً في ظلّ الحرب الإسرائيلية على غزة، وفقاً لموقع فوكس. في نهاية أكتوبر/ تشرين الأوّل الماضي، تعرض متحف إل باريو، في حيّ مانهاتن النيويوركي، لانتقادات واسعة من الفنانين، بعد قراره الامتناع عن عرض عملٍ فني يظهر فيه العلم الفلسطيني بشكل بارز.
كذلك، واجهت إدارة متحف فريك بيتسبرغ للفن في ولاية بنسلفانيا اعتراضات واسعة إثر تأجيلها معرضاً للفن الإسلامي.
في البداية، قال مدير المتحف للصحافة إنّهم "أدركوا أن المعرض سيكون مؤلماً للعديد من الأشخاص، في مجتمعنا"، الأمر الذي عرّضه لمزيد من الانتقادات من المجموعات المسلمة واليهودية. دفع ذلك الإدارة إلى إصدار بيانٍ منفصل قالت فيه إنّها "أجلت المعرض لأنها لم تحضّر له بالتعاون مع المجتمع المسلم في بيتسبرغ".
بطبيعة الحال، لم يبقَ الانقسام في الأوساط الفنية حكراً على الولايات المتحدة، بل امتد إلى دولٍ كثيرةٍ أخرى، خصوصاً في أوروبا الغربية.
خلال شهر نوفمبر، استقالت اللجنة المسؤولة عن اختيار مدير معرض دوكومنتا الشهير للفن المعاصر في ألمانيا، بعد أن أجبر أحد أعضائها على التنحي بسبب دعمه لحركة مقاطعة إسرائيل (BDS). أما في بريطانيا، فقد ألغى غاليري ليسون اللندني معرضاً جديداً للصيني المنفي آي وي وي، الذي يُعَدّ من أشهر الفنانين المعاصرين في العالم، بسبب تصريحات ناقدة لدولة الاحتلال.
رأت مؤلفة كتاب "إضراب الثقافة: الفنون والمتاحف في عصر الاحتجاج" والمديرة السابقة لمتحف كوينز، لورا رايكوفيتش، في حديث مع "فوكس" أنّ "المتاحف لم تكن قَطّ مساحات محايدة، بل إنها انعكاس للقيم الثقافية للمجتمع وأعرافه وهياكل السلطة القائمة"، معتبرة أنّ الانقسام المتزايد يعود إلى "الاختلاف بين التجارب الحياتية للعاملين في المتاحف والفنانين، وجامعي الأعمال الفنية والتجار وممثلي المؤسسات المانحة، والذين عادةً ما يكونون أكثر ثراءً".
وأضافت: "ينتهي الأمر بمدير المتحف إلى أن يكون مترجماً أو وسيطاً بين الطرفين. هذا مستحيل حقاً، فالفجوة كبيرة جداً".
شرخٌ في الأوساط الأدبية
بطريقة مماثلة، انقسمت المواقف في المؤسسات الأدبية والكتّاب. لعلّ أبرز حدث أدبي، تبع عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر، كان قرار منظمي معرض فرانكفورت إلغاء حفل لتكريم الروائية الفلسطينية عدنية شبلي، ما عرّضهم لانتقادات واسعة.
أما في الولايات المتحدة، فوقّع أكثر من 2000 شاعر وكاتب على رسالة مفتوحة يتعهدون فيها بمقاطعة مؤسسة الشعر (Poetry Foundation)، وهي منظمة غير ربحية تنشر مجلة مختصة بالشعر، وذلك بعد أن قال الكاتب جوشوا غوترمان ترانين إن محرري المجلة تجاهلوا نشر مراجعة كتبها بسبب "موضوعاتها المعادية للصهيونية".
وقالت الشاعرة الأميركية الفلسطينية، نور هندي، التي شاركت في صياغة الرسالة، لـ"فوكس": "استفادت المؤسسات الثقافية منذ فترة طويلة من العمل الرائع للكتّاب والفنانين الذين وضعوا قلوبهم وحياتهم على المحك لرواية قصصهم"، مضيفة: "نحن نخدمهم، وليس العكس… هذه المؤسسات والمطبوعات تسخر من عملنا وأسمائنا وتاريخنا عندما ترفض اتخاذ موقف في الوقت الذي تؤيد فيه حكوماتنا قمع شعبنا وتسلحه وتموله". من جهته، نفى متحدث باسم مؤسسة الشعر أنّها حاولت إسكات الكاتب لأسباب سياسية، واصفاً الادعاء بأنه ينتمي إلى فئة "المعلومات المضللة".
وأثّر الانقسام بشكل واضح في المؤسسات الثقافية اليهودية الداعمة تاريخياً لإسرائيل، وصعّب عملها. في أكتوبر الماضي، أعلن مركز إن واي 92، الشهير في نيويورك، تأجيل لقاء مع الكاتب الأميركي الفيتنامي الحائز جائزة بوليتزر، فييت ثانه نغوين، بسبب تصريحاته الداعمة للفلسطينيين، إضافة إلى توقيعه على رسالة مفتوحة تصف ممارسات إسرائيل في غزة بأنّها "تعريف الإبادة الجماعية". أدّى ذلك إلى استقالة موظفي قسم الشعر في المركز، وإلى تراجع كتّاب آخرين عن قبول دعوات سابقة لحضور لقاءات فيه.
رسائل الاحتجاج
أطلقت العديد من الشخصيات الفنية والأدبية عرائض ورسائل مفتوحة تتضامن مع الفلسطينيين وتدعو إلى وقف الحرب. عدا عن الرسالة المفتوحة الموجهة إلى مؤسسة الشعر، وتلك التي وقعها نغوي، قامت مجموعة تضم أكثر من 1800 كاتب يهودي، من ضمنهم نايومي كلاين وتافي غيفينسون، مطلع نوفمبر، بنشر رسالة ترفض الربط بين انتقاد دولة الاحتلال ومعاداة السامية.
كذلك أصدرت مجموعة "كتّاب ضد الحرب على غزة"، بياناً تضامنياً مع الشعب الفلسطيني، يشجب "إسكات المعارضة والتغطيات العنصرية والتحريفية في وسائل الإعلام".
حظيت جميع هذه الرسائل بانتشار واسع، ووقّعت من قبل العديد من الفنانين والكتّاب والصحافيين، الذي دعوا إلى وقف فوري للعدوان على قطاع غزة. في بعض الأحيان، أثار توقيع العاملين على الرسائل المفتوحة غضب المؤسسات، كما جرى مع رئيس تحرير مجلة آرت فوروم، ديفيد فيلاسكو، الذي طُرد من منصبه في أكتوبر بسبب توقيعه على رسالة أطلقها فنانون أميركيون، تدعو إلى إنهاء العدوان، الأمر الذي دفع أربعة موظفين آخرين إلى الاستقالة من المجلة.
من غير الواضح، بحسب "فوكس"، كيف ستستعيد الأوساط الفنية والثقافية تماسكها بعد الشرخ الكبير الذي كشفته الحرب الحالية على غزة. ففي الوقت الذي عبّر فيه الكثير من الفنانين عن دعمهم للفلسطينيين، من غير المرجّح أن تكون المؤسسات والقائمون عليها قادرين على مجاراة هذا الموقف حالياً، نظراً لارتباطاتهم بمانحين وممولين ورعاة يقفون على الجهة الأخرى من الصراع.