لا يمكن أن نتجاهل اللحظة الفلسطينية الكبرى الظاهرة على مواقع التواصل الاجتماعي. من الشيخ جراح إلى المسجد الأقصى وصولاً إلى غزة، ومروراً بكل المناطق والبلدات الفلسطينية في الضفة أو الداخل المحتل، نشاهد فلسطين هذه المرة بطريقة مختلفة، أقرب من الواقع وإليه. لا تختصر هذه الصورة كلّ ما يحصل في فلسطين بطبيعة الحال، لكنّها توثّق الأحداث والانتفاضة الفلسطينيّة بصوت وصورة الفلسطينيين/ات أنفسهم، بأغانيهم وهتافاتهم ورقصاتهم، وبتظاهراتهم واشتباكهم مع قوات الاحتلال، وبمآسيهم والنكبات المستمرّة التي تحل عليهم. نراها من وجهة نظرهم، من واقعهم، من حقيقتهم، وليس فقط من وجهة نظر الوسائل الإعلاميّة وتغطياتها الخبريّة المستعجلة، أو من وجهة نظر الاحتلال الذي تنتشر رواياته على أغلب، إن لم نقل كلّ، وسائل الإعلام الأجنبيّة، وينشط بكثافة في بروباغندا يدفع لها الملايين ويخصص لها الآلاف من البشر لنشرها.
في المناصرة اليوم للقضيّة الفلسطينيّة التي تستقطب فنانين أجانب ومؤثرين، ربما أكثر من مّا تستقطب فنانين ومؤثرين عربا، بعد تطبيع دول عربية مع الاحتلال، تنتشر الرواية الفلسطينيّة للأحداث، وينكسر، قليلاً، حاجز "معاداة السامية" الذي يفرضه الاحتلال كي يرفع عنه كلّ الانتقادات والاحتجاجات الدولية. فنسمع أصواتاً مدوّيّة ترفض الاحتلال والتهجير والنكبة، وتناصر الفلسطينيين، لأنها رأت الحقيقة، وشاهدت القمع الإسرائيلي للمواطنين الفلسطينيين العزّل، مباشرةً عبر المنصّات التي نحّت كلّ شيء جانباً، وقررت أن تكتفي برفع أصوات الفلسطينيين.
هذه المرّة، نرى حسابات "إنستغرام" مكرّسةً للقضية الفلسطينية. المنصّة المخصصة للصور ومقاطع الفيديو، عادةً ما يستخدمها الناشطون عبر مواقع التواصل للهروب من السياسة والنقاشات التي تدور عبر منصّات أخرى، أبرزها "فيسبوك" و"تويتر". انتقلت المأساة الفلسطينية إلى التطبيق الذي تنتشر عليه صور "السعادة" والرفاهية والحياة - غير الواقعية - في كتير من الأحيان، لتحلّ محلّها حقيقة ما يجري في فلسطين. يبدو الامتعاض الإسرائيلي من ذلك واضحاً، فالتضليل الذي يمارسه الاحتلال ويتواطأ معه فيه موقع "فيسبوك"، كان مسيطراً على الروايات العالميّة للأحداث الفلسطينيّة طوال السنوات الماضية، خصوصاً عبر وسائل الإعلام.
يكتب صحافيون إسرائيليون على "تويتر" معربين عن ذلك الامتعاض، معتبرين أنّ هناك "كثيرين ممن يتحدثون وكأنهم يفهمون الصراع الفلسطيني الإسرائيلي" (وكأنّ مقاومة الاحتلال صراعاً متكافئاً أصلاً)، ثمّ يتحدثون عن كون "إنستغرام" منصّة "لمحو التاريخ اليهودي" (لا مشكلة لهم بحذف التاريخ الفلسطيني). يحاولون استخدام الروايات نفسها التي تحاول طمس التاريخ الفلسطيني، وسرقة الهوية الفلسطينية العربية، لترسيخ أنّ الفلسطينيين/ات "إرهابيون" يحاربهم الاحتلال "ليحمي دولته".
لكنّهم لا ينجحون إطلاقاً. فهذه المرة، نرى مؤثرين عالميين ينشرون ويعيدون نشر ما ينشره الفلسطينيون/ات من حي الشيخ جراح والقدس واللد ونابلس وغزة وغيرها، فلا يكون هناك أيّ مجالٍ للهروب من مشاهدة تلك الحقيقة والتفاعل معها. نرى حساباتٍ خصصت لنقل الصورة الحقيقية من فلسطين، إن كانوا ناشطين فلسطينيين يتحدثون العربية، أم صفحات خلقت لنقل الرواية باللغة الإنكليزيّة (تتعرض للحجب أو المنع من الظهور لكنّها تعود بحساباتٍ أخرى). نشاهد تصحيحاً لعناوين الصحف العالمية التي تتغنّى بحياديّتها ونقلها "الحقيقة الكاملة" أو جرأتها على الانتقاد، لكنّها لا تتجرّأ على انتقاد الاحتلال أو مناصرة الفلسطينيين.
هذه المرة، يتحدث الفلسطينيون في مقاطع فيديو عن قصص تهجيرهم من بيوتهم، عن قصص قصف بيوتهم، عن اعتقال أصدقائهم، ينشرون فيديوهات وصوراً للقمع الإسرائيلي للاحتجاجات الفلسطينية، للمستوطنين الذين يحملون الأسلحة ويصوّبونها على الفلسطينيين ويقتلونهم من دون أي محاسبة. ينشرون قصصاً عن المستوطنين الذين سافروا من بلدانهم ليأتوا إلى فلسطين ويهجّروا أهلها ويرهبوهم، ويدّعوا ملكيةً لما لا يعود لهم، لا في الحقيقة، ولا في التاريخ، ولا حتى في القانون الدولي.
تبدو الوجوه الفلسطينيّة واضحةً، غاضبة وحزينة، في وجه ما تتعرّض له من حملات همجية تستمر منذ سنوات، من دون أن يناصرهم أحد. تخرج صرخات "الحجّات" الفلسطينيات اللاتي يندبنَ وطنهنّ وأحباءهنّ وبيوتهنّ، ويقلن "فداكِ يا قدس". يظهر الأطفال الفلسطينيون: باكين يزفّون أهاليهم شهداء، معتقلين يعنّفهم الاحتلال ويقتنصهم من بين مواطنيهم، مقاومين يردّون على جنود الاحتلال في وحشيّتهم، ويظهرون أيضاً شهداء، لم ترحمهم آلة القتل الإسرائيلية كما لم ترحم أحداً من أجدادهم منذ أن صار الاحتلال احتلالاً. تبدو الحقيقة واضحةً لا لبس فيها، تبدو فلسطين جريحة، منكوبة، لكنّ الفلسطينيين/ات يبدون متّحدين، صامدين، مقاومين، وتعلو أصواتهم وتصدح فيما ينقلها المتضامنون معهم إلى العالم.
في هذه الهبّة، تبدو مواقع التواصل منصّات وأدوات في أيدي الفلسطينيين الذين يقمعون عبر هذه المنصّات نفسها، وتحذف منشوراتهم وحساباتهم منها محاباةً للاحتلال. ويبدو أنّ كل ما يحتاجون إليه هو مناصرون/ات من حول العالم، ومستعدون للوقوف إلى جانبهم ورفع صوتهم وحثّ حكوماتهم على التحرّك، بلا تخلّ. في هذه الصرخة الفلسطينيّة العالية، يُسمع بوضوح صوتٌ يقول إنّ الفلسطينيين مستعدون دائماً للدفاع عن أنفسهم وأرضهم وحقّهم، وإنّ ما تحتاجه فلسطين منّا هو ألا نتخلى عنها.