استمع إلى الملخص
- الغابة تمثل مكاناً للبوح والعزلة، وتبرز سام كصوت العقل الذي يساهم في تقريب وجهات النظر بين كريس ومات، مما يعكس أهمية الحوار والإنصات في تجاوز الفجوات العمرية.
- اعتمدت دونالدسون على أسلوب "سينما الطريق" وركزت على الحوار والمشاهد الطويلة، مما يعكس موهبتها السينمائية التي يمكن أن تتطور لتقديم أعمال أعمق.
في أول تجربة لها في إنجاز فيلمٍ روائي طويل، اختارت الأميركية إنديا دونالدسون (1984) موضوعاً مُعقّداً للغاية: المُراهَقة بما فيها وعليها. فهذه المرحلة العمرية مفترق طرق فاصل في حياة الإنسان، اختارتها دونالدسون لإنجاز "شيء جيد (Good One)" (2024) كتابةً وإخراجاً، بعد تجارب عدّة في إخراج أفلامٍ قصيرة.
تتمحور قصّة جديدها هذا، المعروض أولاً في الدورة الـ40 (18 ـ 28 يناير/كانون الثاني 2024) لـ"مهرجان ساندانس السينمائي"، حول المُراهِقة سام (ليلي كولياس)، التي تتّفق مع والدها كريس (جايمس لُغْرو) على التخييم في غابة، مع صديق طفولته مات (داني مكارثي)، الذي كان سيصطحب معه ابنه، قبل أنْ يتشاجرا معاً في اللحظة الأخيرة، فيرفض المجيء معه. يذهب الثلاثة إلى وجهتهم. هناك، في الغابة، يتشكّل الفعل الدرامي بمحاورات ومناقشات، وعودة إلى ماضي كلّ فرد منهم، علماً أنّ المشتركَ بين كريس ومات تجربةُ الطلاق، فالأول منفصل عن زوجته ومتزوّج أخرى، وله منها ولدٌ لا يزال صغيراً (ابنته سام تبلغ 17 عاماً)، ومات باقٍ من دون زواج، يعيش مآسي الفراق وتبعاته، ويخوض مشاكل لا تنتهي مع ابنه الذي يكرهه.
في فضاءات الغابة وسكونها، وابتعادهم عمّا يشغلهم في الحياة العادية، ومع غياب شبكة الإنترنت ووسائل التواصل، تتشكّل أحاديث في لحظات صفاء، ويقف كلّ فرد على ما يظنّه سبب تعاسته، أو أسبابها.
الغابة مُعادل موضوعي للبوح والسكون والعزلة، ونقيض الحداثة، ومُضاد قوي لفوضى المدن ومشاكل الحياة بكلّ ما فيها. لذا، كانت فضاءً مناسباً للمصالحة مع الذات، والإنصات إلى الآخر، الذي (الآخر) تعكسه سام بدرجةٍ كبيرة، تلك المُراهِقة التي تتهيّأ لمرحلة الشباب، لكنّها لم تجد من يسمعها كما ينبغي، ومن ينصت إلى أسئلتها وأحلامها باهتمام. حتّى كريس، الذي يعتبر نفسه مُقرّباً منها، لم يكن يستمع إليها كما ينبغي، ولم يسألها عن شعورها إزاء دخولها الجامعة. من ناحية أخرى، هناك مات المجروح من ابنه، فتظهر أشياء، كافتقاده إياه، وحلمه بأن تكون علاقته به كعلاقة صديقه كريس بسام، نظرياً على الأقل.
لذا، كانت سام صوت العقل، تشرح وتُقرّب وجهات النظر، إلى درجة أنّ مات وجدها حكيمةً وذكية، فقط لأنّه أنصت إليها جيداً، وهذا يوحي بأنّه لا ينصت كما ينبغي إلى ابنه. كذلك فإنّها استمعت إلى تذمّر والدها من أمها، وتعداده مساوئها، والقول إنّها هي التي تركته. لكنّ سام تُعيد القطار إلى سكّته دائماً، بمواجهته بالحكمة. كأنّها مرآة كلّ واحد منهما.
من هنا، يُفهم أنّ التباعد العمري بين الآباء والأبناء لا يُحتوى إلا بالنقاش والإنصات وفهم الآخر، والتعامل معه وفقاً لمرحلته العمرية، لأنّ الإنصات يقود مباشرةً إلى حلّ المشاكل، والتعامل معها بمسؤولية.
رافقت التصوير (ويلسون كاميرون) مشاعر بوح الشخصيات، بالخضرة الممتدّة، والشعاع المنبثق بين الأشجار، وطريقة تنقّل بعض الحشرات وعيشه، إذْ ركّزت الكاميرا على هذا البعض بصُوَر مُقرّبة جداً، كي تظهر طريقة عيشه وتوحّده مع موجودات الغابة. كذلك فإنّها تعكس، بطريقة أو بأخرى، طريقة عيش البشر. شُحِنت تلك الصُّور البصرية بأصوات الأوراق والنهر والمطر، فيتوحّد الإنسان مع الطبيعة ويُنصت إليها جيداً، ويُصبح جزءاً من الغابة، وبالتالي يتحتّم عليه التعامل مع الآخر من دون تصنّع أو تكلّف، فيكون للبوح معنى.
في معالجتها الإخراجية لـ"شيء جيّد"، المعروض في "نصف شهر السينمائيين" في الدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024) لمهرجان "كانّ"، اعتمدت إنديا دونالدسون على المسار الممتد للأحداث، وهذه طريقة تشبه كثيراً "سينما الطريق"، وتتقاطع معها في عناصر كثيرة. وهو أسلوب غير مُجهد في الكتابة، وغير مُعقّد في الإخراج. لهذا، اعتمدت دونالدسون على مسارات الحوار والنقاش والمشاهد الطويلة، لأنّ القيم الفكرية ومشاعر الندم والوقوف على الأفعال السلبية نتيجة مرسومة غالباً، كما إفرازات محورية لتلك النقاشات، وبالتالي تحوّلت إلى قيمة إنسانية أعطت للفيلم بُعداً إنسانياً، ومغزى فكرياً، ومنطلقات جمالية عدّة.
استطاعت دونالدسون خلق رابطٍ مهمّ بين ليلي كولياس والمتلقّي، بتركيز الكاميرا على ملامحها البريئة والغامضة والمُشعّة، وربطها بنقاطٍ معيّنة من تلك النقاشات. كأنّها توجّه المتلقّي إليها، ليستمع إلى كلامها، ويفهم صوتها عبر اللغة السينمائية القوية، التي خلقتها انفعالاتها الجسدية وملامحها.
"شيء جيد" تجربة سينمائية معقولة، لكنّها ليست مختلفة أو مميّزة بشكل كبير. مشاركته في "نصف شهر السينمائيين" يثير تساؤلات عن خيارات إدارته، خصوصاً لمن تعدّدت مُشاهداته عام 2024. لكنْ، لا بُدّ من الإقرار بأن لدونالدسون موهبة سينمائية يمكن أنْ تُطوّرها مستقبلاً، لتقديم أعمالٍ أعمق وأكثر تميّزاً، وربما لتتجاوز والدها روجر دونالدسون، المخرج والمنتج والسيناريست الأسترالي ـ النيوزيلندي، المنفصل هو الآخر عن والدتها باكراً. لعلّها، بهذا الفيلم، تعكس صورة من سيرتها ووجعها من ألم الفَقْد.