لا تزال فصول قضيّة المخرج رومان بولانسكي، الذي فرّ من الولايات المتحدة في عام 1977 بعد اعتدائه جنسياً على فتاة تبلغ من العمر 13 عاماً خلال جلسة التصوير، تتوالى بعد 45 عاماً من المعارك القضائية في الولايات المتّحدة وفي فرنسا على حدٍّ سواء.
يوم الأحد الماضي، حصلت وكالة أسوشييتد برس على نسخة غير مختومة من محضر شهادة المدعي العام السابق في القضية، التي تكشف أنّ القاضي أخبر المحامين سرّاً بأنه سيتراجع عن صفقة الإقرار بالذنب مع المخرج الفرنسي الشهير وسيسجنه. وأدّى ذلك في نهاية المطاف إلى هرب بولانسكي من الولايات المتّحدة، حيث لا يزال مطلوباً للعدالة حتّى اليوم.
تدعم هذه الشهادة للمدعي العام المتقاعد روجر غانسون ادّعاء بولانسكي بأنّه هرب عشية إصدار الحكم النهائي بالقضية في عام 1978 لأنّه لم يعتقد أنّه يحصل على صفقة عادلة.
أكّد غانسون في إفادة سريّة عام 2010 أنّه لم يكن متفاجئاً بهروب بولانسكي بعد أن نكث القاضي بعدّة وعود لمحاميه.
قال غانسون: "لقد وعده القاضي في مناسبتين بأمرٍ، ثمّ نكث وعده". أضاف: "لذلك لم أتفاجأ عندما قيل له إنّه سيُرسل إلى سجن الولاية... إنّه لا يقدر أن يثق بالقاضي".
قال محامي الدفاع هارلاند براون لـ"أسوشييتد برس" يوم الجمعة الماضي، قبل الإفراج عن المحضر، إنّ الكشف عن مضمون شهادة غانسون سيجدّد مساعيه لإصدار حكم غيابي على بولانسكي، الأمر الذي سيضع حدّاً لكونه هارباً من العدالة في الولايات المتّحدة.
كان براون قد حاول من دون جدوى سابقاً إنهاء القضية، في ظلّ إصرار المدّعين والقضاة على ضرورة حضور بولانسكي إلى محكمة لوس أنجليس العليا لحلّ هذه المسألة.
جاء الإفراج عن الشهادة، بعد أن أعلن المدعي العام للوس أنجليس جورج غاسكون أنّه لن يعارض الكشف عن شهادة سلفه روجر غانسون، انطلاقاً من مبدأ شفافية القضاء. ومن المرجّح أن تدعم الشهادة مزاعم بولانسكي بأنّه كان سيحاكم أمام قاضٍ فاسد.
استمرت الملحمة القانونية على ضفتي المحيط الأطلسي طوال أكثر من أربعة عقود من حياة المخرج التي امتلأت بالمآسي والانتصارات.
عندما كان طفلاً، هرب بولانسكي من غيتو كراكوف في بولندا خلال الحرب العالمية الثانية من النازيين. ولاحقاً، في عام 1969، كانت زوجته شارون تايت من بين 7 أشخاص قتلوا على يد أتباع تشارلز مانسون.
ترشّح بولانسكي، البالغ من العمر 88 عاماً، لجائزة أوسكار عن فيلمه "تشيناتاون" في عام 1974 و"تيس" في عام 1979، ثمّ فاز بجائزة أوسكار أفضل مخرج عن فيلمه "ذا بيانيست" في عام 2003. لكنّ المخرج لم يتمكن من تسلّم جائزته، لكونه مطلوباً في الولايات المتحدة.
رفضت فرنسا وسويسرا وبولندا طلبات من الولايات المتحدة لتسليمه، ودائماً ما يحظى بولانسكي بالتكريم في أوروبا، حيث حاز الثناء وفرص العمل مع العديد من الجهات الفاعلة والرئيسية. لكن لم يحُل ذلك دون طرده من عضوية أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة الأميركية في عام 2018، تحت وطأة حملة "مي تو" التي اجتاحت هوليوود.
شهدت ضحية بولانسكي، التي كانت تبلغ 13 عاماً آنذاك، أمام هيئة محلفين كبرى أنّه خلال جلسة تصوير في منزل الممثل جاك نيكلسون في مارس/ آذار 1977، وبينما كان نيكلسون غائباً، أعطاها بولانسكي شمبانيا وجزءاً من حبّة مهدئ، ثمّ أجبرها على ممارسة الجنس معه. قالت الفتاة إنّها لم تقاتله لأنّها كانت خائفةً منه، لكنّ والدتها اتصلت فيما بعد بالشرطة.
عندما رفضت الفتاة الإدلاء بشهادتها في المحكمة، أقرّ بولانسكي بالذنب، وبممارسة الجنس غير القانوني مع قاصر مقابل إسقاط المدّعين لاتهامات المخدرات والاغتصاب والشذوذ الجنسي.
عارض بولانسكي الاتهامات بالقول إنّ هناك سوء سلوك قضائي في الدعوى المفتوحة ضدّه. في عام 2010، أخذت محكمة في لوس أنجليس شهادة مختومة من غانسون حول ما يتذكّره عن الوعود التي قدّمها القاضي للمخرج في العام 1977.
كان محامو بولانسكي في الغرفة أثناء إدلاء غانسون بشهادته، ولكنّهم لم يتمكنوا من استخدامها في المحكمة، وهم يسعون منذ ذلك الحين للكشف عن هذه الشهادة، أملاً بأن تساعدهم في إنهاء القضية.
قال براون إن القاضي لورانس ريتنباند، المتوفى الآن، تأثر بالدعاية خلال نظره في القضية، وغيّر رأيه عدّة مرات بشأن العقوبة التي يجب أن يواجهها بولانسكي.
بعد تقرير صادر عن مسؤولي المراقبة يفيد بأنّ بولانسكي يجب ألّا يقضي أيّ وقت خلف القضبان، طلب ريتنباند إجراء تقييم إضافي لمدة 90 يوماً في سجن الولاية.
قال براون إنّه بعد 42 يوماً من التقييم في السجن أطلق سراح بولانسكي مع توصية بقضاء فترة المراقبة فقط.
لكن على الرغم من ذلك، أخبر القاضي المحامين سرّاً أنّه يجب أن يكون أكثر صرامة بسبب الانتقادات في وسائل الإعلام. وقال إنّه سيرسل بولانسكي إلى السجن لفترة أطول، لكنّه سيطلق سراحه خلال 120 يوماً، وهو ما كان ممكناً قانوناً.
قال براون: "رومان (بولانسكي) يقول: كيف يمكنني الوثوق بالقاضي الذي كذب مرتين؟".
أقرّ غانسون في شهادته بأنّ القاضي كانت لديه سلطة لإصدار أي قرارٍ يريده بحقّ بولانسكي لأنّه لم يكن هناك حكم متفق عليه.
منذ وقتٍ طويل تسعى الضحية، سامانثا غيمر، لإنهاء القضية أو الحكم على بولانسكي غيابياً. فقبل 5 سنوات سافرت من منزلها في هاواي إلى لوس أنجلوس لحثّ القاضي على إنهاء "عقوبة بالسجن لمدة 40 عاماً فرضت على ضحية الجريمة، وكذلك على مرتكبها".
قالت غيمر: "أناشدكم أن تفكروا في اتخاذ إجراء لإنهاء هذه المسألة بشكلٍ نهائي رأفةً بي وبعائلتي".
كانت غيمر قد ظهرت أمام الجمهور منذ سنوات، ونشرت مذكراتها في كتابٍ بعنوان "الفتاة: حياة في ظل رومان بولانسكي"، حيث تظهر على الغلاف في صورة التقطها لها المخرج.
كان بولانسكي قد دفع لغيمر 600 ألف دولار أميركي في تسوية قضائية في عام 1993.
طالبت غيمر، التي ضغطت من أجل التحقيق في وجود سوء سلوكٍ قضائي، بإلإفراج عن شهادة غانسون خلال الشهر الماضي، كما حثّت مكتب المدعي العام على إلقاء نظرةٍ جديدةٍ على القضية.
وعلى الرغم من اعتراض مكتب المدعي العام المستمر على نشر الشهادة، إلّا أنّه تراجع في وقتٍ سابق من هذا الأسبوع احترامًا لرغبة غيمر، وللتحلّي بالشفافية مع الجمهور.
وقال المدعي العام جورج غاسكون في بيان: "وصفت المحاكم هذه القضية بأنّها واحدة من أقدم القصص الملحمية في تاريخ القضايا الجنائية في كاليفورنيا". وأضاف: "على مدى سنوات، حارب هذا المكتب الإفراج عن المعلومات التي يحقّ للضحية وللجمهور معرفتها".
ومع ذلك، لم يشر البيان إلى أنّ بولانسكي سيكون قادراً على تجنب المثول حضورياً أمام المحكمة، خاصةً أنّه أكّد أن بولانسكي لا يزال فارّاً من العدالة، وأنّ عليه تسليم نفسه للمحكمة.