استمع إلى الملخص
- يعتمد الفيلم على أسلوب بصري معقد يتجاوز السياق الزمني التصاعدي، مستخدمًا التوليف والموسيقى واقتباسات من أدباء فلسطينيين لإعادة تأطير الوجود الفلسطيني.
- يطرح العمل تساؤلات حول دور الفن والسينما في النضال السياسي والتاريخي، مؤكدًا على أن المقاومة يمكن أن تتخذ أشكالاً مختلفة بما في ذلك الكفاح الثقافي والفني، ويدعو إلى إعادة التفكير في الصور والسرديات المقدمة.
"الفيلم عمل فدائي". هل حقاً الفيلم عمل فدائي؟ بأي منطلقات نظرية وفكرية يقارب المخرج الفلسطيني كمال الجعفري (1972) الوظيفة الجمالية للفيلم مع عمل سياسي، يقترن عادة بحمل السلاح والمواجهة القتالية، إلى درجة أنّه يضع تلك العبارة المستفزّة عنواناً لوثائقيّه الجديد؟
مسار فيلمه، المُركّب بصرياً والموزّع بين أزمنة تاريخية لا سياق زمنياً تصاعدياً يجمعها، لا يجيب عن الأسئلة تلك بسهولةٍ تريح طارحها. فالجعفري يتعمّد استفزازه للبحث بنفسه عن أجوبة لها، من خلال حصيلة ما "استولى" عليه من خامات (تسجيلات فيلمية) قديمة من الأرشيف الإسرائيلي، عائدة أساساً له ولشعبه الفلسطيني، لكنّ الإسرائيلي سرقها منه، واستولى عليها، وجَيّر كلّ ما فيها لصالحه.
"الفيلم عمل فدائي" وتحرير العمل السياسي
على تحريفها، أسّس المحتل سرديّة تاريخية تمنحه حقّ استيطان أرض ليست له. "الاستيلاء" السينمائي في "الفيلم عمل فدائي" (2024) يقابل فعل "التحرير" في العمل السياسي الوطني، بفارق أنّ صانعه لا يستخدم القوّة ولا السلاح لاستعادة ما له، بل يلجأ بوصفه سينمائياً إلى تصحيح الصورة الفلسطينية المسروقة، وإعادتها إلى أصلها، عبر عملية حذف وطمس باللون الأحمر لكلّ شرح أو معلومة إسرائيلية مُختَلقة كُتبت فوقها. أحياناً كثيرة يلجأ، باللون نفسه، إلى طمس وجوه الغرباء الناهبين لفلسطين، بينما يُبقي على حضور سكّانها الأصليين فيها.
بالتوليف والموسيقى، وبجمل مستعارة من كتابات أدباء فلسطينيين، وبمقاطع من تسجيلات فيلمية قديمة، يجري الوثائقي عملية تبريز سينمائي لوجود الفلسطيني ـ المكاني والبشري ـ على أرضه. بالتفكير السينمائي، وبتطبيقه عملياً، يُعيد الجعفري الهامش إلى المركز الذي كان عليه.
ما المُتحقَّق سينمائياً من ذلك الاشتغال؟ هل التوليف وحده يكفي لصنع فيلم وثائقي، ينشد تصحيح سردية تاريخية خطرة؟ عناد صانعه، في المضي بأسلوبه الخاص إلى النهاية، متأتٍ من قناعة بأنّ سرقة تاريخ شعبه الفلسطيني تمّت عبر تطبيق مُمنهج لاستراتيجية استهدفت كتابة سردية تاريخية إسرائيلية جديدة، تُبرّر بها احتلالها فلسطين، مقترنة بمحو تام للذاكرة البصرية الفلسطينية، القليلة أصلاً، لكنّها مهمّة جداً، وقيمتها التاريخية لا تُقدّر بثمن. هذا ما يريد الوثائقي تثبيته.
من المَشاهد التي يتوقّف عندها الوثائقي، بتروٍّ، مشهد سرقة الجيش الإسرائيلي أرشيف "مركز الأبحاث الفلسطينية" في بيروت، في اجتياحه لها عام 1982. كان ضباطه حريصين جداً على نقل كلّ الموجود فيه إلى إسرائيل، وبأسرع وقت. كلّ ملف وكلّ وثيقة تعني بالنسبة إليهم تكذيباً لسرديتهم التاريخية، لذا لا بُدّ من محوها وطمسها، أو على الأقل تشويهها بمعلومات إضافية كاذبة، يشتغل "الفيلم عمل فدائي" على حذفها بصمتٍ يكاد يُطبق على مساره الزمني. فهاجس صانعه ترك الصورة الحقيقية كما هي، من دون زوائد وإضافات، لتقول ما عندها لمُشاهدٍ لا يريد، ولا يُفترض به أنْ يكون بالضرورة من العارفين والمُلمّين بتاريخ فلسطين.
يترك الجعفري لمُشاهد فيلمه رؤية تاريخ بلده وقراءته عبر خامات بصرية، متخلّصة من عمليات التحوير والتشويه، فباتت في مواجهة سردية مختلقة، يظنّ كُتّابها أنّ العالم لن يتمكّن من معرفة ما فيها من أكاذيب وخداع. لم يخطر في بالهم أنّ السينما قادرة على تقديم سردية تاريخية أخرى، مادتها وخاماتها مستندة إلى صُوَر وتسجيلات محبوسة لديهم، لا يريدون للعالم الاطّلاع عليها.
المقاومة على الأرض
في الواقع، ينجح الإسرائيليون طويلاً في إخفائها. لكنّهم كانوا يواجهون على الأرض دائماً مقاومة فلسطينية للإلغاء والإنكار. هذا يستدعي بدوره استرداداً لصورتهم الحقيقية، وإعادة صوغ مضامينها الثقافية والحضارية سينمائياً، ليتساوق مطلبهم التاريخي مع السياسي.
هذه المهمة السينمائية توصف، في متن "الفيلم عمل فدائي" بـ"كاميرا المسلوبين". فرغم أنّ التوليف يعوِّض عنها ظاهراً، يبقى وجودُها الأصلي هو الأساس. فلا توليف (كمال الجعفري ويانغ ويلمان) من دون صورة. يدهش المتلقّي ممّا يُعرض أمامه من مواد وخامات بصرية، تؤكّد الحقّ الفلسطيني، مع أنّ الغاية منها كانت لحظة التقاطها تتنافى مع ما يحقّقه الجعفري عبر عملية التوليف، المُضافة إليها موسيقى تصويرية (سيمون فيشر تورنر)، تزيد من قوّة حضورها التاريخي، بينما توثّق خامات منها ممارسات الجيش البريطاني ضد الشعب الفلسطيني، قبل تسليمه أرضهم لغرباء جاؤوا إليها من خلف الحدود. تمرّ الصُور والتسجيلات الفيلمية على كلّ فلسطين، قبل النكبة وبعدها، وكلّها تؤكّد فلسطينية تلك الأرض.
للإيغال في مهمّته "الفدائية"، يُثبت الفيلم كلّ تسجيل قديم يوفّره الأرشيف عن فلسطين. لا يضيف إليه من عنده تعليقاً أو شرحاً، فالخامات التي أخذها من الأرشيف يظنّ الإسرائيلي أنّ سرديته التاريخية راسخةٌ بفضلها، ولا أحد يقدر على تكذيبها، لكنّ الجعفري، بما عنده من مهارة وموهبة سينمائية، يباغته بفعلٍ معاكسٍ مُوجع.
ربما لنْ يُشفي أسلوبه السينمائي، خاصة المتلقّي الفلسطيني، الذي يريد من صنّاع سينماه أنْ يقولوا للعالم بـ"وضوح" الحقيقة التاريخية. الجعفري يريد هذا أيضاً، لكنّه يريد قوله باللغة التي يجيدها: السينما وجمالياتها التي تسبق عنده الخطاب التعبوي السياسي. يعرف أنّ فيلمه يصل إلى العالم بتلك اللغة، ومن يريد معرفة تفاصيل ما يظهر فيه من تسجيلات وصُور، عليه مراجعة معلوماته، وهذا أجدى وأقوى من خطاب سياسي مباشر، على أهمية الأخير.
هل يمكن القول إنّ الأسلوب السينمائي لكمال الجعفري، المتميّز بالبطءٍ والغموض، يستدعي تفكيراً من المتلقّي في معنى ما يريد توصيله إليه. مراجعة منجزه السينمائي تعزّز الانطباع بنهج خاص يتبنّاه لنفسه، وما صبره على عتبٍ يأتي من بعض أبناء جلدته، لأنّهم لا يرون في اشتغاله السينمائي ما يُشفي غليلهم، إلا تأكيداً على قناعته بالأسلوب الذي اختاره، وبه يقترح على المتلقّي الانفتاح والقبول بأشكال تعبير جديدة غير مألوفة، تساعد في تأمّلها والتفكير بها على تخليص الذاكرة البصرية الفلسطينية من آثار ما تتعرّض له من تشويهٍ، يستحق منه لمحوه والتخلّص منه المضي في إعادة تشكيل المرويات التاريخية الفلسطينية باللغة السينمائية التي يعبّر بها عن أفكاره ومواقفه، وربما يجد بعضهم صعوبةً في فهمها.