استمع إلى الملخص
- **تأثير التعليم والمدارس على الفرق الغنائية**: لعبت المدارس والجامعات دورًا مهمًا في نشأة الفرق مثل Bell Boys، مما يعكس تنوع الأذواق الفنية في المجتمع المصري.
- **تطور الفرق الغنائية في الستينيات والسبعينيات**: ظهرت فرق جديدة مثل فريق يحيى خليل والقطط الصغيرة، متأثرة بالفرق الغربية وقدمت موسيقى الجاز والروك.
منذ منتصف الخمسينيات، بدأت ظاهرة الفرق التي تغني بغير اللغة العربية في التشكل، فاجتذبت قطاعات من الجمهور المصري، ولا سيما هؤلاء الذين لم يجدوا في الغناء العربي التقليدي بغيتهم، حتى وإن كان هذا الغناء قد قطع شوطاً بعيداً في مسيرة ما يعرف بالحداثة والتطوير. كان في القاهرة جمهور يريد غناء باللغة الإنكليزية، أو بلغات أوروبية، ومن هنا ظهر بعض الفرق الغنائية المصرية التي أدّت أعمالها بغير العربية.
ويأتي كتاب "الفرق الغنائية.. الأوراق المنسية في ملف الأغنية المصرية" للصحافي المصري محمد أبو شادي ليرصد تاريخ تشكل الفرق الغنائية المصرية التي تؤدّي أعمالها بغير العربية، ويتتبع تأثيرها وتفاعلها مع غيرها من الفرق الغنائية التقليدية.
صدر الكتاب عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر، وشغلت محاوره 280 صفحة توزعت على ستة فصول. وقد اختار المؤلف أن يكون تأريخه لحركة الفرق الغنائية مستمداً من مؤسسي هذه الفرق، الذين التقاهم وأجرى مقابلات معهم على مدار أكثر من 20 عاماً.
في الفصل الأول، استعرض المؤلف ظروف نشأة تسع فرق تغني بغير العربية، وفي مقدمتها The Skyrockets التي ظهرت عام 1956، وقد أسسها خمسة شبان في المرحلة الجامعية، ومنهم مايكل بشارة الذي كان -حينها- يدرس الطيران في كلية الهندسة جامعة القاهرة، وكان يجيد العزف على البيانو والأكورديون. كان في الفرقة كذلك أسعد قلادة، الطالب بالجامعة الأميركية، وكان يجيد العزف على الغيتار، إلى جانب أوسكار كريساتي، الذي كان يتولى تنظيم عروض الفرقة، ثم اتجه إلى تعلم آلة الدرامز، واستطاع خلال فترة قصيرة أن يصبح عازف طبول.
بدأت هذه المجموعة عروضها من خلال قسم الهواة في حديقة الأزبكية الشهيرة وسط القاهرة، واعتمد أعضاء الفرق على برنامج متنوع من الأغنيات البسيطة باللغات الإنكليزية والفرنسية والإيطالية. ويستعرض المؤلف جهود الفرقة لتقديم عروضها، والعقبات التي واجهتها في الكازينوهات والفنادق الكبرى.
بعد فترة قصيرة من تأسيس The Skyrockets، بدأ الشاب إسماعيل برادة الطالب في كلية طب قصر العيني، الذي يجيد العزف على البيانو خطواته لتأسيس فرقة The comets بالتعاون مع زميله في الكلية رؤوف كامل، صاحب الصوت المتميز، قبل أن ينضم إليهم طالب الطب وعازف الدرامز منير خلف، ثم الطبيب البيطري محمد الحجري.
يروي إسماعيل برادة في لقاء مع المؤلف تفاصيل أول حفل قدمته الفرقة في إحدى كنائس منطقة مصر الجديدة. ويقول إن المجموعة واجهت عاصفة من الرفض الأسري كونهم ينتمون إلى عائلات كبيرة تهتم بتعليم أبنائها ليشغلوا وظائف مرموقة. كانت سمعة العاملين في المجال الموسيقي سيئة، وتمثّل عنواناً للفساد والفشل. لكن، في المقابل، لقي الفريق ترحيب الشباب والمراهقين، ممن لم ينسجموا مع الغناء التقليدي، ولا حفلات أم كلثوم التي تمتد إلى قرب الفجر.
يؤكد برادة في حواره مع المؤلف أن الفرقة قدمت أغاني بالإنكليزية والفرنسية والإيطالية. ويحدد عام 1954 تاريخاً لبدايات تأسيس الفرقة. استمرت The comets في تقديم عروضها إلى أن اقترب موعد امتحان بكالوريوس الطب.
في عام 1960، وفي هذه الأثناء، جاء مندوب عن شركة يونيفرسال إنترناشونال الأميركية لإنتاج الأفلام، وانبهر بمستوى أداء الفرقة، فقدم لأعضائها عرضاً مغرياً، بالسفر إلى الولايات المتحدة بعقد سنوي قدره 400 ألف دولار، مع إغراء آخر يتمثل في السفر إلى 14 دولة.
لكن "الأطباء الأربعة" قرروا اختيار إكمال رحلتهم التعليمية التي أوشكت على الانتهاء، ورفضوا العرض الكبير. وبعد الامتحانات والنجاح والتعيين، أدرك أعضاء الفريق أن الجمع بين احتراف الطب واحتراف الفن يكاد يكون مستحيلاً، فانتهت مسيرتهم مع الموسيقى والغناء.
وممن التقاهم المؤلف عازف البيانو منير نصيف، مؤسس فرقة Bell Boys، وهي الثالثة في ترتيب ظهور هذا النوع من الفرق. يقول نصيف: "ولدت في مدينة الأقصر لأسرة تهتم بالموسيقى. وفي عمر خمس سنوات أحضروا لي مدرساً للبيانو فأجدته بسرعة. وفي المرحلة الثانوية فزت بالمركز الأول لمسابقة البيانو على مستوى مدارس القُطر المصري، وكان هذا الفوز فارقاً في تحويل مسيرتي نحو الاحتراف مع الفرق الأجنبية العاملة في مصر حينئذ".
ويوضح نصيف في حواره مع المؤلف أنه بدأ تأسيس الفرقة عام 1957، وأثبتت وجودها مع الفرق الأخرى، ونجحنا معاً في سحب البساط من تحت أقدام الفرق اليونانية والإيطالية. وعلى عكس The Skyrockets استطاع شباب Bell Boys الاستمرار في تقديم الغناء الأجنبي حتى عام 1981.
ومن المفارقات التي يمكن أن تلفت قارئ الكتاب، أن تواريخ انطلاق الفرق الأولى من المصريين الذين يغنون بغير اللغة العربية جاءت متواكبة مع بدايات المد الناصري الكاسح، وصعود فكرة القومية العربية. فالقاهرة التي ترنو إليها أنظار العرب وتصغي إليها أسماعهم لمتابعة خطب جمال عبد الناصر أو حفلات أم كلثوم، لم تخل يوماً من اتجاهات مغايرة، بل معاكسة، تميل إلى غناء غربي في روحه ولغته وقضاياه، وترى في فرق الجاز والروك العالمية نماذج مبهرة للإعجاب والاقتداء. تمثل هذه المفارقة درساً مهماً يجب أن ينتبه إليه كل من يظن أن بالإمكان قولبة الجماهير في ذوق فني واحد، أو إجبارها على نمط غنائي معين.
كما أن المؤلف يشير إلى الدور المهم الذي لعبه التعليم والمدارس، التي ظلت لفترة طويلة تقدم مستوى عالياً من جودة التعليم، وكانت للأنشطة الفنية مساحة ورعاية في المراحل التعليمية الأولية وكذلك في الجامعات، التي وفرت للطلاب مناخاً مواتياً لعرض مواهبهم الموسيقية والغنائية.
ينتقل محمد أبو شادي إلى استعراض الفرق الغنائية التي بدأت بالظهور خلال حقبة الستينيات، ويستهل الحديث عنها باستعراض مسيرة عازف الجاز المصري الأشهر يحيى خليل، الذي بدأ خطوات تكوين فريقه عام 1961، بعد أن تمرس بالعزف في فرقتين غربيتين؛ الأولى تقدم موسيقى الجاز فقط، والثانية تقدم الغناء.
يقول خليل في حوار مع المؤلف: "نشرت إعلاناً في إحدى الصحف أطلب فيه عازفين مصريين. جاء إلي عمر خورشيد وهاني شنودة، وعمل معي أيضاً عزت أبو عوف، ووجدي فرنسيس. كما عمل معي مواطن أميركي اسمه ماكس بيري، كان قد جاء إلى القاهرة للدراسة في الأزهر، وأطلق على نفسه اسم عثمان كريم".
يشير المؤلف إلى أن يحيى خليل قدم أول برنامج تلفزيوني عن الجاز في التلفزيون المصري منذ عام 1964، لكن بعد ذلك بعامين سافر خليل إلى الولايات المتحدة بغرض الدراسة واكتساب الخبرات، فتفرق الموسيقيون الذين عملوا معه، وكونوا فرقاً خاصة؛ فأنشأ عزت أبو عوف فرقة القطط، ثم الفور إم، وكون وجدي فرنسيس مع لوكاس وعمر خيرت فرقة القطط الصغيرة، وأنشأ إسماعيل الحكيم فرقة المعاطف السوداء، كما أنشأ هاني شنودة فرقة المصريين. ينقل المؤلف عن عزت أبو عوف وصفه ليحيى خليل بأنه الأب الروحي لموسيقى الجاز ولكل الفرق ذات الطابع الغربي التي نشأت في مصر منذ مطلع الستينيات.
تناول المؤلف مسيرة عدة فرق سارت على الخط نفسه، ومنها مثلاً: فريق ذا بلاك كوتس، أو المعاطف السوداء، الذي أسسه إسماعيل الحكيم منتصف الستينيات، ومرت بمراحل كثيرة، من أهمها إنتاج أغانٍ خاصة بالفريق تأليفاً وتلحيناً، وبالطبع باللغة الإنكليزية، وهو ما لاقى نجاحاً كبيراً إلى درجة أن كثيرين كانوا يظنونها أغنيات مأخوذة من الفرق الأوروبية العالمية. كما أجرى أبو شادي لقاءات مع أعضاء فرقة Les Petits Chats أو "القطط الصغيرة": عمر خيرت وصبحي بدير ولوكاس.
وأشار خيرت إلى أن مصر عرفت الفرق الأجنبية منذ الأربعينيات، ثم بدأ يدخل هذا الوسط موسيقيون مصريون، وكونوا الفرق الخاصة بهم، كما أكد أهمية تقديم هذا اللون الغربي من خلال موسيقيين مصريين، ينقلون إلى الجماهير ما يحدث في العالم.
واستعرض أبو شادي عبر فصل كامل أهم الفرق الغنائية المصرية التي غنت بالعربية أو بالعامية المصرية، مع تأثرها بالفرق الغربية، ومنها: "الجيتس" التي أسسها سمير حبيب، ولحن لها بليغ حمدي ومودي الإمام وفتحي سلامة، وكذلك فرقة النهار التي أسسها محمد نوح، عقب هزيمة 1967، وأخذت على عاتقها رفع الروح المعنوية للجماهير، واستنهاض الهمم استعداداً للمعركة، فغنت عدة أعمال شهيرة، مثل: مدد، والله حي، وشيلوا الطرح السودا.
كما تناول مسيرة فرقة المصريين، التي أسسها هاني شنودة عام 1977، وفرقة الأصدقاء التي أسسها عمار الشريعي عام 1980. وقد خصص المؤلف الفصل الأخير من الكتاب لعرض شهادات عدد من النقاد والموسيقيين حول تجربة الفرق الغنائية في مصر، ومنهم: كمال النجمي، وحلمي بكر، وحسين الإمام، ونبيل علي ماهر، وطارق الكاشف.
محمد أبو شادي صاحب رحلة طويلة مع الصحافة الفنية، وتولى منصب نائب رئيس التحرير لمجلة الإذاعة والتليفزيون منذ عام 2007 حتى عام 2022. وحصل على عدد من الجوائز، من أهمها جائزة نقابة الصحافيين عام 2000 عن تحقيقه حول الفرق الغنائية في مصر.