واجه المسرح المصري، منذ نهاية التسعينيات، حالة هجرة مستمرة من نجومه إلى السينما والتلفزيون. وتباكى الوسط الفني على حال المسرح طوال هذه السنوات، مطالبين بضرورة عودته ودعمه. وكانت الحجة وقتها لانهيار المسرح، حاجته لأوقات طويلة من التحضيرات والبروفات، إضافة إلى انصراف الجمهور عنه. وفي السنوات الأخيرة، حدث العكس بهجرة النجوم من السينما والتلفزيون إلى المسرح بشكل مكثف. ماذا تغير منذ ذلك الوقت حتى الآن؟
تشهد الفترة الحالية وجوداً غير عادي لنجوم التمثيل على خشبة المسرح، وتحول ذلك إلى ظاهرة فنية منذ ما يقارب عامين، لدرجة عودة نجوم كانت آخر مسرحياتهم منذ عشرات السنوات، مثل أحمد حلمي ومحمد هنيدي ومنى زكي وأحمد السقا، الذين انشغلوا بالسينما والتلفزيون بعد بداياتهم المسرحية. كذلك قدّم عدد من الفنانين مسرحيات لأول مرة بمسيرتهم، ومنهم حسن الرداد وأحمد عز وغادة عادل وروبي ودينا الشربيني، إضافة إلى عودة الأنواع المسرحية الأخرى التي كانت غائبة، مثل المسرح الغنائي والاستعراضي.
السبب الأول والمباشر ووراء العودة الجماعية للفنانين إلى المسرح، هو الانفتاح السعودي، وافتتاح عدة مسارح جديدة في الرياض في العامين الماضيين. وكان للمسرح أولوية واضحة في التحول السعودي إلى الترفيه في عام 2017. وكانت أولى الأنشطة الفنية بعد قرار الانفتاح، فعُرضت عدة أعمال مسرحية، وعلى رأسها "سيبوني أغني" للراحل سمير غانم، وذلك قبل بناء المسارح الجديدة في الرياض، إذ تستضيف يومياً عروضاً مسرحية متعددة للنجوم، سواء في موسم الرياض أو غيره من المناسبات، ما دفع معظم الفنانين إلى العودة إلى المسرح من أجل الحضور في السوق السعودي الجديد.
عشرات الأعمال المسرحية قدمها النجوم في الرياض في العامين الماضيين. ورغم ذلك، لا نستطيع وصف هذه الظاهرة بالحركة الفنية لعدة أسباب، أولها أن المحرك وراء عودة الفنانين إلى المسرح ليس وجود مشاريع جيدة أو حركة إنتاجية بالمسرح تهدف إلى الوصول إلى شيء ما في المستقبل، سواء أهداف تجارية أو فنية، ولكن السبب الوحيد هو المكسب السريع من وراء هذه العروض، وقلة تكلفتها لعدم احتياجها إلى أي تجهيزات فنية أو تحضيرات وبروفات مسبقة.
تحولت هذه العروض مع الوقت إلى مبرر وصيغة لحضور هؤلاء النجوم أمام الجمهور السعودي مباشرةً، وفرصة لرؤية الجمهور لنجوم السينما والتقاط الصور معهم داخل المسرح، على غرار الحفلات الخاصة، ومثلها مثل أي فعالية ترفيهية تحدث في منطقة بوليفارد الرياض. يتجلى ذلك في نوعية العروض المسرحية المقدمة، التي غالباً ما تعتمد بشكل كبير على الارتجال، وعلى روايات قدمت من قبل بأشكال مختلفة، مثل تحويل الأفلام السينمائية الحديثة إلى مواقف مسرحية من أجل عرضها، كمسرحية "أبو العربي" لهاني رمزي من فيلمه الشهير، ومسرحية "حزلقوم" لأحمد مكي من فيلمه "لا تراجع ولا استسلام"، ومسرحية "اللمبي في الجاهلية" لمحمد سعد من فيلم "اللمبي".
واتجه بعضهم إلى إعادة تقديم الأعمال الكلاسيكية، بقالب ساخر، مثل مسرحية "حتى لا يطير الدكان" لأكرم حسني، ومسرحية "سيدتي الجميلة" لأحمد السقا. وامتدت الرغبة في حضور النجوم المحبوبين بأي شكل مسرحي إلى استضافة عائلاتهم في مسرحيات حول حياتهم الخاصة، مثل مسرحية "عيلة لاسعة جداً" لأحمد زاهر وابنتيه ليلى وملك زاهر، ومسرحية "جوازة معفرتة" لأحمد فهمي وزوجته هنا الزاهد.
إلى جانب ذلك، تعرض المسرحيات في الرياض في ثلاث ليال فقط، وكل عرض لا يتجاوز الساعتين. لا تحتاج هذه القصص إلى تجهيزات خاصة في المسرح أو تقنيات عرض أو بروفات، لأنها قائمة على الارتجال والمزاح مع الجمهور، وإعادة تقديم الإفيهات والاسكتشات الشهيرة. رغم ذلك، استفاد بعضهم من هذا التوجه في عمل محاولات جادة لتقديم محتوى مسرحي جديد، مثل العرض المسرحي الاستعراضي "شارلي"، حول تشارلي شابلن، الذي قُدِّم على الخشبة في القاهرة والرياض.
جاء الانفتاح المسرحي في وقته بالنسبة إلى الفنانين المصريين، فشكله الجديد لا يؤثر بجدول أعمالهم، إذ إن أسبوعاً من البروفات والعرض لن يضر، ولن يكلّفهم كثيراً من الجهد والوقت، وكذلك يحقق ربحاً كبيراً من العرض في العاصمة السعودية، ما يعوض قلة أعمالهم في السينما والدراما في سوق الإنتاج المأزوم في مصر. ولكن، في النهاية، تأتي هذه الظاهرة من دون أي استفادة حقيقية، سواء للجمهور أو للفن المسرحي نفسه، لأن جمهور المسرح الحقيقي خارج هذه المعادلة، ومعظم هذه الأعمال لا تعرض في الأساس في مصر ولا يسمع عنها الجمهور، وقُدم بعضها في عروض محدودة في مصر بدعوات خاصة وأسعار مرتفعة للغاية، مثل مسرحية "شارلي" التي كانت أقل تذكرة بها 100 ريال في السعودية و1000 ألف جنيه في مصر، وهو رقم ضخم للغاية مقارنة بمعدل الأجور في مصر، وبأسعار العروض الترفيهية المختلفة.
رغم ذلك، ما زالت الفرصة متاحة أمام المسرح للعودة إلى الجمهور الحقيقي، ولكن لا مؤشرات على ذلك في الفترة الراهنة. ومن بعد تجربة أشرف عبد الباقي في "تياترو مصر" و"مسرح مصر"، لم تقدم تجارب مسرحية قائمة بالأساس على الجمهور حتى الآن، وكانت تجربة أشرف عبد الباقي مغامرة مكتملة الأركان، بداية من عودته إلى المسرح في عام 2014، في وقت تأكد فيه الجميع من موت المسرح، وبفريق عمل من الممثلين غير المعروفين تماماً، وعلى مسرح حديث الإنشاء وبتذاكر معقولة السعر، وصل وقتها إلى 50 جنيهاً للتذكرة. ولجأ إلى حيلة جديدة باختصار مدة العرض إلى ساعة وساعتين، وتقديم عروض جديدة باستمرار للتغلب على قيود المسرح القديمة، التي يرجح أنها السبب في عزوف الجمهور والنجوم عن المسرح.
لم تتطور تجربة "مسرح مصر" بعدما أصبح فريقها نجوماً واتجهوا إلى الارتجال والاستسهال بالعروض. ولكن انتهت التجربة بعدة مؤشرات، وعلى رأسها أن الجمهور لا يقاطع المسرح، وأن فكرة تقديم عروض جماهيرية ما زالت قائمة، ولكنها تتوقف على الأفكار الجديدة والجاذبة للجمهور، وتظل مرهونة بإيمان الفنانين أنفسهم بأفكارهم الجديدة وبالمحاولات الفردية، مثل أشرف عبد الباقي في تلك الفترة، أو مثل تجربة دنيا سمير غانم الأخيرة في مسرحية "أنستونا"، التي خصصتها للعرض الجماهيري في مصر بأسعار متوسطة.