مرّ عامان على جريمة اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي. عامان شهدت الساحة الإعلامية فيهما، لا في السعودية فقط، بل في العالم أجمع، تدهوراً كبيراً وانتهاكاتٍ لا تحصى ضدّ العاملين في المجال الإعلامي، ما يمكن وصفه بـالثمن الباهظ الذي دفعته الصحافة العالميّة بعد جريمة اغتيال خاشقجي.
قبل عامين، كان جمال خاشقجي إنساناً حيّاً، يعيش، كغيره من الأحياء، حياةً يُحاول أن تكون طبيعيّة. كان مستمراً في عمله، فيكتب في "واشنطن بوست"، بدأ حياته الجديدة في واشنطن، وكان على وشك الزواج بخطيبته التركية خديجة جنكيز.
تفاصيل عاديّة في حياةٍ بشريّة كان يمكن أن تستمرّ وتكون طبيعيّة، لولا أنّ هناك مَن قرّر أنّ معارضته حرام على قاطني الأرض، واعتبر أنّ القتل له حقّ. لولا أنّ خاشقجي كان له رأي، ويقوله بحريّة... لولا أنّه كان يتكلّم، يقول حقائق، ومواقف لها مؤيدوها ومعارضوها... لولا أنّه كان يفتح نقاشاتٍ في الدولة والعدالة والحريّة... لولا أنّه طمح إلى أن تكون بلاده أفضل وأعدل وأزهر، للجميع.
قُتل جمال خاشقجي في سفارة بلاده، وطنه، قبل عامين، على الأراضي التركيّة. في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول 2018، دخل القنصليّة السعودية في إسطنبول فيما كانت تنتظره خطيبته في الخارج. بعد ساعات سيطر الذعر على جنكيز، فبدأت تخبر العالم بما تخاف أن يكون قد حصل، ثم عرف العالم كلّه بعد "مواقف أدانت روحاً أُزهقت(!)"، وإنكار وتضليل رسميين: عُذّب جمال خاشقجي على أيدي فريق تعذيب. كان شخصاً وحيداً وأعزل، وأرسل له فريق تعذيب كامل. قُطّعت جثّته. أُسيل دمه وجرى التخلّص من أشلائه وبقاياه... وحتى اليوم، لا جثّة ولا ختام لمَن كان ينتظر الصحافي الداخل إلى سفارة وطنه، فغُدر به وظُلم، ومورست فيه أقسى سيناريوهات الوحشيّة.
بعد عامين، قيل فيهما ما قيل، وكُشف ما كُشف، وسُجن مَن سُجن، باتت قضيّة خاشقجي كما غيرها في عالم عربي يسيطر عليه زعماء مهووسون بشخصهم على حساب شعوبهم: خلافيّة. هناك من يترحّم عليه، ومن يوالي قاتله. بدل أن يكون هناك موقف إنساني عالمي يرفض جريمة كهذه بحقّ أيٍّ كان، أصبح النقاش حول حصولها عادياً ومفتوحاً بين مؤيد ومعارض.
منذ 2018، صدرت كتب عن حياة خاشقجي، وأفلام عن الجريمة المروعة بحقه، كما حزب معارض سعودي ومنظمة تسعى للديمقراطية في العالم العربي كان قد أسسها هو. كُشفت محاولات اغتيال معارضين سعوديين، وسُجن العشرات من الناشطين والمعارضين والمطالبين بحقوق الإنسان. باتت ثقافة الذباب الإلكتروني وبلطجته سلاحاً يُرفع بوجه أي شخص قد يطرح فكرة أو طرحاً مختلفاً حول الأوضاع السياسية في السعودية والخليج خصوصاً، والعالم العربي والعالم أجمع عموماً.
تكثّفت الحملات من وسائل إعلام كـ"واشنطن بوست" ومنظمات حقوقيّة تطالب بالعدالة لجمال خاشقجي. لكنّها بقيت، وستبقى في ظلّ نظام عالمي يحابي أصحاب النفوذ ويطوّع القضاء لمصلحتهم، على حالها: من دون أي نتيجة حقيقية. من دون عدالة، ومن دون حتى جثّة يمكن دفنها.
إذ يقول الأمين العام لمنظمة مراسلون بلا حدود، كريستوف ديلوار، في سياق تعليق المنظّمة على حكم الاستئناف في السعودية بقضية خاشقجي، أوائل سبتمبر/ أيلول الماضي إن "الحكم بالسجن لمدة إجمالية قدرها 124 عاماً على الضالعين في اغتيال جمال خاشقجي قد يعطي الانطباع بأن الإجراءات القضائية جرت بالشكل المناسب، لكن يجب ألا ننسى أن المحاكمة جرت في جلسات مغلقة، وبالتالي لم تحترم المبادئ الأساسية للعدالة. فإجراء هذه المحاكمة خلف أبواب مغلقة ودون حضور الصحافيين لا يتيح معرفة الحقيقة وفهم ما حدث في 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2018 داخل القنصلية السعودية في إسطنبول، ولا حتى باكتشاف هوية الآمرين بارتكاب جريمة الدولة هذه".
استشرس النظام السعودي في محاربة الرأي الآخر خلال عامين من جريمة خاشقجي، حتى بات الاختلاف في نقطةٍ واحدة ثانوية مع وليّ العهد محمد بن سلمان ممنوعاً، وحتى بات الحديث عن جريمة خاشقجي نفسها كلّه ممنوعاً. بات الحديث عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي ممنوعاً، فيما التحالف معه لسحق الفلسطينيين مسموحاً، إثر الهرولة للتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي والاتفاقيات. بات نهجاً عادياً أن يُضرب الصحافيون ويمنعوا من تغطية التظاهرات في كلّ البلدان التي تشهد مطالبات بالإصلاح والتغيير.
في لبنان، تعرّض المئات خلال عام للضرب والاستدعاءات والترهيب. في العراق، اغتيل خمسة صحافيين وتعرّض العشرات للانتهاكات، فاضطروا إلى مغادرة بغداد. في الجزائر، يُحكم القضاء قبضته على الصحافيين والناشطين في الحراك الشعبي. بات نهجاً أن يُسجن من يتجرّأ على كشف الفساد، وباتت التقارير الحقوقيّة التي تروي حكايات الوحشيّة في التعذيب والاغتصاب في السجون للناشطين والصحافيين والمعارضين خبراً يومياً، قد لا يُنشر في أغلب وسائل الإعلام، خصوصاً أنّ السعوديّة نفسها تسيطر على قطاعٍ واسعٍ من الإعلام العربي.
قبل عامين، دخل جمال خاشقجي القنصلية السعودية في إسطنبول راغباً في إتمام أوراق للزواج، وفي استكمال حياةٍ شبه طبيعيّة بعدما أجبره الطغيان على مغادرة وطنه، ولم يغادرها مطلقاً. قبل عامين، دخلت الصحافة العربية والعالمية مع جمال خاشقجي إلى قنصلية بلاده في إسطنبول، ولم تخرج بعدها حرةً أبداً. قبل عامين، بات التنكيل بالصحافيين والحقوقيين مسموحاً، أمام العالم، وبأشدّ الطرق رعباً ووحشيّة... وصار الإفلات من العقاب سهلاً كالقتل في وضح النهار.